من أراد أن يتعمق في مسألة تشكل العقل العربي وما آل إليه حاله اليوم فما عليه إلا أن يعود إلى محمد عابد الجابري وجورج طرابيشي لحرق الزمن بمراحل والوقوف على كثير من الحقائق. إن كل ما يبقى بعد رحيل العقل المفكر في أوطاننا العربية هو هذا الإرث العظيم من الفكر والوعي الذي جدير به أن يدرس ويكون منهجا في مؤسسات التعليم، فالعقل العربي قد انغلق كثيرا حتى بات بحاجة إلى معجزة حقيقية ليعود سويا مستنيرا. وفي كتب طرابيشي الذي رحل عن عالمنا وترك لنا رسائل مفتوحة وكتبا أقل ما يمكن وصفها بأنها بمثابة مواجهة صادمة للعقل والفكر المغيب أنه كما عرف عنه لا يساوم أبدا على الحقيقة، وكانت رسالته هي كشف الحقائق، والتأكيد على معنى الحرية للعقل، وليس الحرية بالمعنى الشكلي الوصفي، مؤكدا على أن الحرية هي الفارق بين اللغة الإنسانية واللغة الحيوانية.

الإنسان لا يصير إنسانا إلا مع اكتمال مسار وجوده. وهذا المسار لا يخضع إلى جبرية مسبقة، بل هو مشروط بالاختيار الحر للإنسان في كل محطة من محطاته. والإنسان بالماهية حر، لأنه منسوج بالعقل، والعقل منسوج باللغة، واللغة مثلها مثل العقل، علامة حرية لا علامة عبودية. وعلى حين أن غريزة الحيوان ثابتة، فإن عقل الإنسان ولغته قابلان لتطور ولكمال لامتناهٍ.

عبر مسيرة طويلة من العمل والاشتغال على البحث في الطرق والكيفية التي تشكل بها العقل العربي وتأثره بالديني والتراثي ومنها كتابه المعجزة أو سبات العقل في الإسلام، حذر طرابيشي بطرق عديدة من عودة المثقف إلى النص السلفي، ذلك أن من أدمن أن يقوم له النص مقام الواقع من الصعب أن يتحرر من سطوة النص. وهنا تتوافق أطروحات طرابيشي مع فكرة أن العلمانية ليست ضد الدين، بل ضد الاتجار بالدين، العلمانية تعني أن تقف الدولة دون تحيز على مسافة متساوية من الأديان كافة، فلا تميز طائفة على طائفة في الحقوق أو الواجبات.

التفكير وإعادة النظر ونقد وإصلاح وتجديد الفكر العربي الإسلامي ظل هاجسا عند الكثير من المفكرين العرب، وأجد أنه برحيل الجابري ثم طرابيشي قد يكون هذان الرمزان آخر الرجال المفكرين لما قاما به من رفد الحداثة العربية بفكرهم، والأخذ بيد العقول العربية إلى نقطة التنوير التي تحتاجها مجتمعاتنا العربية اليوم.

رحل طرابيشي وبقيت إحدى وصاياه الأخيرة للإنسان العربي ليقول له: لئن بدا للقارئ أنني مهرطق أكثر مما ينبغي، فربما ذلك لأنني أردت في دخيلة نفسي أن أثبت بطلان القانون القائل إنّ المرء يرتدّ لا محالة إلى "الصراط المستقيم" طردا مع تقدمه في العمر واقتراب لحظة الغيب الكبير، كما قد يوحي بذلك مثال العديدين من المفكرين العرب، بدءا بخالد محمد خالد، وانتهاء بعبدالرحمن بدوي.