-1-
رغم قسوة الحكم العسكري المصري الذي بدأ عام 1952، ورغم مساوئ هذا الحكم الكثيرة، وكان آخرها هزيمة 1967، إلا أن هذا الحكم كان له الفضل في اختفاء الشعارات الدينية من المناسبات السياسية كالانتخابات التشريعية، والرئاسية، والنقابية، وغيرها. وبما أن مصر كانت بوصلة العرب في ذلك الوقت، فقد اختفت الشعارات الدينية كذلك من معظم بلدان العالم العربي في مثل هذه المناسبات.
ولكن هذه الشعارات بدأت تُرفع منذ 1971، في عهد الرئيس السادات الذي فتح أبواب الإعلام والتعليم للجماعات الدينية / السياسية، لكي يكيد بها للناصريين وبقية الفئات السياسية التي كانت هي بدورها تكيد للسادات، وتحاول ـ كما قيل ـ الانقلاب عليه. ومن هنا بدأ "الإسلام السياسي" بقيادة "الإخوان المسلمين" ينشطُ من جديد، ويعيد ترتيب صفوفه ومناصريه استعداداً للمكاسب السياسية القادمة، والتي توّجها "الإخوان المسلمون" في الانتخابات التشريعية المصرية عام 2005، وفازوا بثمانية وثمانين مقعداً في مجلس الشعب المصري. وهي أكبر نسبة حققها "الإخوان المسلمون" في تاريخ مصر، وفي تاريخ العالم العربي والإسلامي كذلك.
-2-
ولكن، لم يكن هذا الانبعاث الجديد للجماعات الدينية/ السياسية انبعاثاً سياسياً اقتصر على العمل السياسي التجريدي، دون اللجوء إلى العنف في كثير من الأحيان وتحول هذا العنف إلى إرهاب منظم ومبرمج من كثير من الجماعات الدينية/ السياسية التي خرجت من عباءة "الإخوان المسلمين" وكان هذا العنف امتداداً للعنف الذي به قتل التنظيم السري للإخوان المسلمين في الأربعينيات من القرن الماضي رئيس الوزراء المصري النقراشي باشا 1948، والقاضي أحمد الخازندار 1948، وحكمدار (مدير الأمن العام) القاهرة سليم زكي باشا وغيرهم. فشهدنا خلال الربع الأخير من القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين وإلى الآن، موجات مفزعة من الإرهاب العنيف في معظم أنحاء العالم العربي وخاصة بعد عام 2003 في العراق والباكستان واليمن والصومال وغيرها من الأقطار العربية والإسلامية. وكانت هذه الموجات الإرهابية، تستمد "شرعيتها الدينية" من دعاة دينيين/سياسيين، يقومون بتجييش الشباب، وشحنهم بالطاقات والفتاوى الدينية، لحثهم، وتشجيعهم، ودفعهم للذهاب إلى حيث "الجهاد ضد الكفار"، وكان هذا "الجهاد ضد الكفار"، يشمل الكثير من رؤوس الأنظمة العربية. وأصبح العالم العربي كله مهدداً بموجات متتابعة من الأعمال الإرهابية، التي كان ضحيتها المئات بل الآلاف من الأبرياء. والغريب، أن رجال الدين الوسطيين لم يقفوا أمام رجال الدين المتشددين، الذين كانوا يجيشون الشباب ويدفعونهم إلى ساحات الإرهاب، والقتل، والدمار، وتفجير أماكن العبادة، والمستشفيات، والمدارس، والمعاهد. فلم تصدر فتاوى دينية مبكرة من رجال الدين الوسطيين، تُدين زعماء الحركات الإرهابية، وتصفهم بالقتلة والمجرمين، لأنهم ـ في حقيقة أمرهم ـ قتلة ومجرمون.
فما بالنا نقيمُ الحدَّ الشرعي على قاتل الشخص الواحد، ولا نقيم الحدَّ الشرعي على من يقتل العشرات بل المئات والألوف من الأبرياء؟.
وما بالنا لا نتوانى في إقامة الحدود الشرعية على كل مخالف، ومرتكب للخطيئة، والفاحشة، ولا نقيم الحدَّ على زعماء التنظيمات الإرهابية، وعلى من هم خلفهم من الدعاة الدينيين المتشددين؟!.
-3-
لم يكن استعمال سلاح "الإسلام السياسي" في يوم من الأيام، إلا محلَّ شقاق ودمار لأصحابه. فبدءاً من الخلاف السياسي الذي نشب بين معاوية بن أبي سفيان والخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ورفع المصاحف على رؤوس السيوف في معركة صفين (39 هـ) واستعمال الدين للخديعة السياسية، وحتى يومنا هذا والاستغلال السياسي لسلاح الدين كان مثار نزاعات، وخلافات، وحروب، وشرور، ودمار.
ومن هنا، كانت نداءات المخلصين، بإبعاد الدين عن الخلافات السياسية والمناسبات السياسية، وعدم امتطاء الدين للوصول إلى الأهداف السياسية، الذي يؤدي في النهاية إلى العنف، ثم إلى تشكيل وتفعيل الخلايا الإرهابية، تحت مُسميات دينية خاطئة، ليست لها أية مصداقية شرعية، برأي كثير من الفقهاء الوسطيين المنصفين.
فالسياسة تتغير وتتبدل يومياً. وما كان في اليسار في الأمس، أصبح اليوم في اليمين، والعكس كذلك. أما الدين وشرائعه فهي ثابتة.
والسياسة فيها الكثير من الدنس والنجاسة والخداع والكذب، والدين طاهر ونقي وصادق ومقدس.
فكيف نخلط بين الماء الصافي والزيت العكر؟
والسياسة والسياسيون، هم المستفيدون من الاستغلال السياسي للدين.
والدين هو المتضرر من نجاسة ودنس السياسة.
فلا فائدة للدين من الاستغلال السياسي لشرائعه وأحكامه. فأية فائدة أو مكسب، كسبه الدين من استغلاله سياسياً، منذ بداية العهد الأموي حتى الآن؟
-4-
في الأسبوع الماضي نقلت لنا الأخبار، أن مصر قررت منع رفع الشعارات الدينية في الانتخابات التشريعية والرئاسية والنقابية، وكافة المناسبات السياسية الأخرى. وكانت مصر قبل ذلك قد منعت رسمياً وبشجاعة سياسية غير مسبوقة، رفع الشعار الديني/السياسي "الإسلام هو الحل". وهو الشعار الذي ابتدعه الإخوان المسلمون في مصر، ونشروه في كافة أرجاء العالم. وهو الشعار الذي استطاعوا من خلاله خداع جماهير الناخبين المصريين البسطاء والمتدينين، والحصول على 88 مقعداً لأول مرة في تاريخ مصر والعالم العربي. وكان هدف مصر من وراء ذلك، وهي إحدى حصون وقلاع الإسلام، ورباط من أربطته الرئيسية والمهمة، أن تمنع الاستغلال السياسي للإسلام، وتُبعد الإسلام وشرائعه عن السياسة واستغلال السياسيين. وفي ظني، أن الأزهر الشريف كان متضايقاً أشد الضيق من هذا الاستغلال السياسي المسيء للدين، وأنه رحب بهذا القرار، الذي من شأنه أن يُبعد الدين عن نجاسة، وأوحال السياسة.
-5-
كذلك أدركت المملكة العربية السعودية هذه الحقيقة، فكشف وزير الحج الدكتور فؤاد الفارسي، اعتماد وزارته بنوداً رئيسية في اتفاقها الموقع مع بعثات الحج، ينصُّ على التقيّد بجميع الأنظمة المعمول بها في السعودية، لمنع تسويق الشعارات الدينية خلال مواسم الحج. وقال الفارسي: "إن جميع الاتفاقات التي تُعقد مع بعثات الحج، تشتمل على بنود رئيسية أهمها الحيلولة دون التسويق لأي شعارات دينية خلال المواسم، بهدف توافر الأمن الشامل لحجاج بيت الله الحرام.
وكان الحج مناسبة دينية كبيرة، تحاول فئات كثيرة استغلاله لأغراض سياسية برفع شعارات سياسية أمام مئات الآلاف من الحجاج المنهمكين في أداء مناسكهم وشعائرهم الدينية، غير ملتفتين إلى أية دعوة سياسية. وهم المدركون، بأنهم جاءوا إلى المشاعر المقدسة لأداء فريضة دينية، وليس لتحقيق أهداف سياسية، كما يريد المغرضون، وتجار الشعارات الدينية/السياسية.