رغم الموت والدمار الذي يحيط ببلدها... تبتسم، رغم ضبابية المستقبل الذي حلمت به يوما لأبنائها... تبتسم، رغم المآسي التي تحاصرها... تبتسم، وأنا من جفت الأدمع في مآقيها لأجل ما يعانونه ليلا ونهارا، تطالبني بأن أبتسم وأكتب عن الجمال والحب والحياة! "نطف قلبنا" أخبرتني يوما: "لو ما ضحكنا بحس أن وجوهنا من النشفان رح تتكسر"! وفي آخر حديث لي معها، "أضحكتني لدرجة البكاء بسخريتها من الأحداث، وعندما أخبرتها بأن الصورة التي أرسلتها كانت رائعة أجابت: "لا تلتفتي إلى ذلك، فلولا السَلَمْكيّ "المكياج" لكانت الحالة تبكي، عزيزتي بخمس سنين هرمنا"! ودعتني لزيارتهم ووعدتني باستعادة الأوقات الجميلة التي كنا نقضيها معا في الحدائق والمتنزهات والأحياء القديمة؛ "لا تخافي، كل شيء تمام"، وأكملت ساخرة: "ليست سوى قذائف الهاون التي تتساقط علينا بين الفينة والأخرى، وأنتِ وحظك"، قالتها وضحكت من قلبها! رغم دهشتي ضحكت معها، ولكن جرسا في رأسي ضرب ليوقظني من سبات اللحظة، وليعيدني إلى واقع أن الأمر ليس طرفة! يا إلهي باتت تتعامل مع الموت وكأنه ضربة حظ!

ما يحرق القلب أنها تطالب بالجمال في حين نجد أن غيرها الذي تعيش غالبيته نعمة الأمن والأمان، يطالب جزء كبير منه بالإقصاء والعداء! وحين يستجاب لمطالبه، بغض النظر إن كان من وقع تحت نيرانه على حق أم باطل، يسكره ما يعتبره نصرا وينزل إلى ساحات التواصل الاجتماعي ويغرقها بتعليقات الشماتة مطلقا مفردات عنترية وكأنه حرر فلسطين وطهر الأقسى من رجس الصهيونية! نعم وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت قوة لا يستهان بها، ولكن يجب أن ننتبه إلى أي نوع من القوة وأي نوع من الثقافة نعتنق ونجاهر بها! والخوف الأكبر من ثقافة القطيع والهستيريا الجماعية!

نعم يا وفاء، نعم يا ابنة الزمن الماضي الجميل، أذكر حينما كنا نسهر على الشرفة ونتسلى بمرور السيارات أمام الفسحة التي كانت أمام منزل جدتي، والتي كانت قليلة حينها، وكيف كان كلّ منا يأخذ دوره وينتظر حظه من نوع السيارة التي كانت ستأتي، وكم كانت ضحكاتنا تتعالى حين يمر حنطور يجره حمار، ونلتفت إلى من كان عليها الدور، ونبدأ بالتعليقات الساخرة على حظها "المعتثر"... وأذكر أيضا حين كنا ننتظر برنامج السهرة "ما يطلبه الجمهور"، وكل واحدة فينا تنتظر الأغنية أو المقطع الذي سيظهر على الشاشة بعد مقدمة قائمة الإهداء، وكان حظي دائما أغنية قديمة لناظم الغزالي أو فريد الأطرش أو كوكب الشرق أم كلثوم، حينها لم أكن أستسيغ الطرب الأصيل ولا القصائد الرائعة التي كانت تحملها إلينا أروع الألحان وأجمل الأصوات، لكن اليوم كلما فتحت المذياع أو الرائي واستمعت إليها عشت الأمس مرة أخرى؛ بكل جماله وبراءته وألوانه!

هل تذكرين تعلقنا بالمذياع ومتابعة الأغاني التي كانت تبث من خلاله؟ أيام قريبة بعيدة ضاعت ما بين صفحات الحاضر والماضي. كم أشعر اليوم بالحنين وأنا أردد معهم كلمات كنا نرددها معاً، وكم أشعر بالأمل والاطمئنان حينما تعيدني تلك الأغاني إليكم رغم المسافات التي باتت تقاس بالأدمع، بعدما كانت تقاس بالضحكات والأوقات الجميلة، أبحث عنها فأين مضت وتركتنا؟ ولكننا مضينا أيضا! فإن كنا بقينا فيها ضعنا كما ضاع "شادي" في السهل وفي الوادي، وسرنا و"تعب المشوار... من خطواتي وخطواتك... تعب المشوار ويلى راحوا وما باحوا، باح الموال"، رغم صمت الأوتار، و"يا عود يا رفيق السهر يا عود، متكي على المخمل بتتوجع، وتروح عا آخر دنيي وترجع"، ومعك تعود... أيام مضت يا عود، كانت لنا كلمات وكنا لها نغم وورود، وفي كل مرة أستمع إليها أنتقي من الذاكرة بذور محبتكم لأزرعها في القلب فتنمو وتزهر ولو للحظات، لأتمكن حينها من أن أحتضنكم بين أضلعي من جديد؛ فيا أم كلثوم قولي لهم: "كيف أنسى ذكرياتي/ وهي في قلبي حنين/ كيف أنسى ذكرياتي/ وهي في سمعي رنين"، فيروز يا "زاد الخير" أخبريهم كيف فراقهم قتلني ألف مرة وليس مرتين: "يا عاقد الحاجبينِ/ على الجبين اللجينِ/ إن كنت تقصد قتلي/ قتلتني مرتينِ"، وأنت يا فريد دع صوتك الحنون يذكرني بجمالهم ونقاء أرواحهم: "أنقى من الفجرِ الضحوكِ/ وقد أعرتَ الفجرَ خدّكْ/ وأرقُّ من طبعِ النسيمِ/ فهل خلعتَ عليهِ بُردكْ؟"، أما أنت يا نجاة فصفي لهم حيرتي في البحث عن المفردات، وكيف أن التعابير تهرب من ريشتي كلما حاولت مجاراة تعابير الحب والعطاء في بلاغتهم "من أين تأتي بالفصاحة كلها / وأنا يتوه على فمي التعبير؟"، أيا عندليبي قل لهم كيف طال صبري وانتظاري لقاءً جعله الإرهاب يبدو وكأنه بات مستحيلا: "قل لي إلى أين المسير/ في ظلمة الدرب العسير/ طالت لياليه بنا/ والعمر لو تدري قصير"، فيروز يا صاحبة الصوت المخملي، يا سفيرتنا إلى النجوم ليصدح صوتك بالمحبة لعل وعسى يصل لأبعد مدى، ويعود إلينا السلام: "إذا المحبة أومت إليكم، فاتبعوها/ إذا ضمّتكم بجناحيها، فأطيعوها/ إذا المحبة خاطبتكم، فصدّقوها"، وبإذن الله "راجعين يا هوى راجعين، ع شوارع الياسمين"، لنلتقي بالأحبة في الطرقات وفي الحدائق وفي البساتين.

ما يطلبه الجمهور... فرق كبير ما بين من يبحث عن الجمال والمحبة وهو في أرض تحترق، يتعلق بقشة من ذكريات مضت لتبعث في جنباته الأمل، وليدخل إلى روحه السلام، وبين من يبحث عن معارك أو انتصارات "سيبرية" لكي ينتشي و"يشخر" وينام!