الإنسان هو المخلوق الوحيد المفكر من بين مخلوقات الله على الأرض؛ ولذلك فهو المكلف الوحيد من بينها من قبل الله، والمساءل عن تصرفاته من قبل البشر أنفسهم. كما أن الإنسان هو المخلوق الوحيد المنوط به إعمار الأرض ورعايتها؛ لتكون مكانا لائقا لعيشه بها، في عزة وحرية وكرامة. إذاً فالإنسان كائن حي، كما أن الحيوان كائن حي؛ ولكن سخره الإنسان لخدمته والاستفادة منه، لكون الإنسان لديه عقل وقدرة على التفكير وبناء عليه القدرة على التطور، والحيوان لا يمتلك العقل، ناهيك عن القدرة على التفكير أو التطور. لكن الحيوان جبل عن طريق غرائزه للبقاء، وذلك بقدرته على البحث عما يسد رمق جوعه، والقدرة على التناسل والتكاثر، وفي بعض الحالات، تجنب ما يعرضه للموت أو الخطر.
إذاً، فالإنسان يبقى حيا ويعيش ويتكاثر ويحمي نفسه من الأخطار عن طريق التفكير والقدرة على التعلم ورسم الخطط والتطور والإبداع؛ أما الحيوان فيفعل ذلك عن طريق غرائزه الطبيعية، وفي بعض الحالات من التعلم عن طريق التقليد والتكرار. ولذلك فمتطلبات إنسان اليوم ليست متطلبات إنسان الأمس، بفضل قدرته على التفكير والتعلم والتطور للأفضل؛ وعليه فبفضل ذلك هو دوما مهموم ومشغول في بحثه الدؤوب عن سبل ووسائل تحسين وتطوير المستوى المعيشي الأفضل والأمثل له ولنسله من بعده. أما متطلبات حيوان اليوم فهي نفسها متطلبات حيوان الأمس، ولن تتعدى متطلبات حيوان الغد أيضا.
الإنسان بقدرته المتراكمة والمتنامية على التعلم والتفكير، حدد موقعه من بين ما حوله من مخلوقات كإنسان؛ حيث هو دوما وأبدا بحاجة إلى الرقي والتطور وتسخير ما حوله من مخلوقات حيوانية ونباتية وطبيعية لذلك. تطور الإنسان السريع وتعلمه جعله يتجاوز حاجته لإشباع رغباته الحياتية الأساسية مثل المأكل والمشرب والمأوى والملبس والتنقل والتطبب والتناسل؛ إلى مطالبته بحاجياته المعنوية التي اعتبرها لا تقل أهمية بالنسبة له عن حاجياته الغرائزية؛ وهذا بالتحديد ما عكس تطور الإنسان وجعله متجاوزا ما حوله من مخلوقات، لا بل متحكم بها. وحاجات الإنسان المعنوية التي لم ولن يتمتع بها أي مخلوق غير مفكر ومتعلم وباحت عن التطور مثله؛ هي ما سماها الإنسان كرامة الإنسان، وجعل منزلتها في تراتبية، قد تسبق حاجيات غريزة البقاء عنده.
وأسس هذه الكرامة هي الحرية والعدالة والمساواة؛ وما يتفرع من هذه الأصول من فروع تؤكدها وتحث عليها. واعتبر الإنسان الفروقات المادية بينه وبين غيره، ممكنا تفهم أسبابها وتجاوزها؛ ولكنه لا يمكن أن يتقبل بسهولة -ناهيك عن أن يتفهم أو يتجاوز- التفرقة بينه وبين غيره بالكرامة الإنسانية، حتى ولو كان أغنى منه بأطنان الذهب والفضة؛ لأن الإنسان الطبيعي يعتبر أن ما يفرقه عن الحيوان هي كرامته كإنسان وحقوقه المعنوية، وليست المادية فقط. الإنسان عندما يحصل على حقوقه المادية المعيشية على حساب كرامته وحقوقه الإنسانية؛ يتنازل عما يفرقه عن الحيوان، ويعيش معه على نفس المستوى.
وعلى هذا الأساس تمت صياغة حقوق الإنسان المعنوية وحماية كرامته، لتكون محفولة ومكفولة في مقدمة دساتير الدول المتحضرة، والتي تحترم إنسانية شعوبها. وكذلك تأسست منظمات حقوق إنسان عالمية وإقليمية ومحلية، لحماية ورعاية حقوق الإنسان، وصيانة كرامته، بنفس المستوى الذي يصان به حقه في الحياة. الغني الجشع يبحث عن الثراء الدائم والمستمر والمتراكم على حساب حقوق الإنسان العادي المادية التي تنتقل منه تدريجيا لتصبح جزءا من حسابات الأثرياء، المتراكمة والمتزاحمة في البنوك.
وكما أن هنالك من يبحثون عن سلب حقوق الإنسان المادية، وهم الأثرياء الجشعون؛ كذلك هناك من يبحثون ويسعون إلى سلب حقوق الإنسان المعنوية وبكل صلافة وعدوانية، وهم المؤدلجون، خاصة من يطرح منهم نفسه كرمز، يجب أن يتبع ويطاع وإلا هلك الناس وكل شيء ضاع. إذاً، فهنالك تكالب على سرقة حقوق الإنسان المادية منها وكذلك المعنوية من الثري الجشع والمؤدلج البشع، وهذا ما يجعل الإنسان بدون حقوقه هذه أقل من الحيوان قيمة، حيث الحيوان على الأقل يتمتع بحقوقه المادية. ولا يعني هذا أنه لا وجود لأثرياء خيرين ولا مؤدلجين إنسانيين، ولكننا هنا نركز على الثري الجشع والمؤدلج البشع.
المتسلط هو بالدرجة الأولى مؤدلج بشع، قبل أن يصل إلى مقاليد السلطة، ويقود الناس كما تقاد البهائم لحدفها، وهم يهللون ويكبرون. وذلك لقدرته الرهيبة على تعطيل عقول الناس ومخاطبة غرائزهم، وهنا يبدأ يتحكم بهم، كما يتحكم بالحيوانات في مخاطبة غرائزها. وهكذا وبسهولة يتم تحويل الناس لقطعان أشبه ما تكون بقطعان حيوانية؛ تشتهي الافتراس وتعرض نفسها للافتراس. وليس بالضرورة أن يختزل هذا التسلط في شخص واحد؛ فقد يكون حزبا أو تنظيما أو فئة دينية أو اجتماعية.
إذاً، فالعقل هو الذي يجعل الإنسان إنسانا، ولذلك فالإنسان السوي يسعى دوما إلى الحفاظ على عقله ويجهد في تنميته وتطويره، كي يحتفظ بآدميته؛ ولا ينزلق في المزالق الدنيا من الحيونة والتوحش. ومن وسائل الحفاظ على العقل وتنميته هو العلم، أي طلب العلم والسعي الدائم لتحصيله. ومن أهم وسائل العلم والتعلم، هو الكتاب؛ أي من يبحث عن الكتاب ويسعى جاهدا إلى اقتنائه، هو إنسان راغب في الحفاظ على إنسانيته. وطبعا، فليس كل كتاب يصب في مصلحة العلم؛ فقد تجد كتابا يحتقر العلم، بل ويسفه العقل، وكذلك هنالك كتب تدعو إلى التوحش والتبهم، ولا بأس من قراءة أي كتاب من باب التعرف على مواقع الخلل ومناقشتها والبحث عن وسائل لتفاديها.
وهنالك ليس فقط كتب تدعو لتحقير العلم وتسفيه العقل؛ ولكن هنالك أيضا حتى مدارس، تنسب نفسها للعلم، تفعل الشيء نفسه، ولو نسبت نفسها للعلم جهلا منها بالعلم نفسه. ولذلك فهي تحصر طلبتها ومريديها، على قراءة كتب معينة، تصب في صالح تقوقعها المتوحش؛ وتحذر، بل وتحرم أي كتاب سواها. فكم من مدرسة متقوقعة على توحشها، احتفلت بحرق كتب غيرها؛ واعتبرتها عملا يصب في صالح العلم وتحصين العقل وترشيده. وهدف مثل هذه المدارس هو حرق الكتب، وإن لم تستطع مصادرتها فتسفيهها وتحريمها ومنعها من الوصول للناس، خاصة الأتباع منهم. وكل ذلك تخوفا على فكرها الهش والمتوحش، من أن يسقط أمام أي نقاش أو طرح مغاير من قبل غيرها.
إن عجزة العقل والعلم هم من يرعبهم وجود معارض للكتب، وندوات وتجمعات ثقافية وفكرية. وأكثر ما استفزهم هذا الأسبوع هي طوابير المواطنين، يقفون وبكل حماس، لم يكن له مثيل عندنا، أمام بوابات معارض الكتاب ينتظرون دورهم للولوج إلى عالم الكتاب والمعرفة. وأكثر ما استفزهم هو كون معظم هذه الطوابير مكونة من النساء، المتعطشات للعلم والمعرفة.
الكل يبحث عن توسيع مداركه العلمية والعقلية من أجل الانعتاق والتخلص من تسلط ذوي التشوهات العقلية التي تهين ذكاءهم المرة بعد الأخرى، بواسطة خطبهم وفتاواهم المهينة لعقل وكرامة كل آدمي سويٍّ. ولذلك فلهذه الأسباب يستفزهم معرض الكتاب، والذي يحذرون منه ويحاولون تشويهه بما فيه وبما ليس فيه.