ليست مهمة الرسل عليهم السلام تأسيس الدول، فكثير منهم عاش أكثر عمره مضطهدا من قومه (نوح ولوط عليهما السلام). مهمة الرسل الأساسية هي البلاغ والإنذار والتبشير، دون إكراه ولا مصادرة حق، أما حساب الناس فهو إلى الله تعالى "وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين"، "... وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ".

عاش محمد عليه السلام في مكة مضطهدا محاصرا، آذوه في نفسه وأصحابه، منعوه من إبلاغ الناس برسالته، ناصبوه العداء ولم يراعوا المودة في القربى بينه وبينهم، تكالبوا عليه وعلى أصحابه وأجبروهم على الهجرة من وطنهم مرارا، وفرضوا على النبي وعائلته وأتباعه حصارا اقتصاديا واجتماعيا داخل مكة دام لسنوات، عرضوا عليه الجاه والسلطة، لكنه رفض لأن ذلك ليس من رسالته في شيء. كان يرجوهم فقط أن يسمحوا له بحرية الحركة والتعبير ليبلغ الناس.

آمن به نفر من يثرب ودفعتهم ظروف الصراع السياسي فيها إلى دعوة النبي لينتقل إليهم فيحموه وينصروه، ويقبل الرسول الدعوة ويخرج متخفيا عن قومه، فلقد رأى في هذا العرض اليثربي فرصة مكانية وزمانية تسمح له بأداء مهمته الوحيدة، إبلاغ الرسالة.

ولتوطيد هذا المناخ فقد أشرف، فور وصوله، على كتابة وثيقة اتفاق بين أهل يثرب بمختلف أعراقهم وأديانهم من عرب مسلمين ومن عرب يهود ومن بني إسرائيل، هذه الوثيقة يصفها بعضهم بأنها أول دستور وطني بعد البعثة النبوية. أساسها الحقوق والواجبات والحرية المالية وحرية الاعتقاد والتعاون في غير الإثم والعدوان؛ أي أنها تقوم على المواطنة فقط وتحفظ لكل فرد معتقده، واتفقوا أن يكون النبي نفسه هو المرجع في تفسيرها إذا حصل بينهم "اشتجار يُخاف فساده"، وهذا منح النبي، عليه الصلاة والسلام، صفة إدارية لم يكن يسعى لها وليست هي غايته ولا مهمته.

تؤكد الوثيقة في سطرها الأول أن هذا الخليط من الأديان ومن الأعراق العربية واليهودية هم "أمة من دون الأمم"، أي أنهم شعب ذو سيادة، وسيعاملون بقية الأمم المجاورة لهم على هذا الأساس، وبما يخدم المصلحة الوطنية، ويتحملون الدفاع معا عن الوطن "المدينة" أمام أي عدو يدهمها.

حتى وفاته لم يطلق الرسول الكريم ولا أصحابه أي وصف ديني على السلطة الناشئة ولم يصفوها بأنها دولة الإسلام، ذلك لأنه ليس للأديان دول، ولا مهمتها تجميع الناس ولا تفريقهم، فالدين هو رسالة الله لكل فرد من الناس، وللفرد الحرية في قبولها أو رفضها، ودماء الجميع وحقوقهم في الحياة محفوظة إلا من اعتدى وظلم وجار.

الانتماء الجغرافي التاريخي والمصالح المشتركة في الوطن هي التي توحد الناس وفق أنظمة ترعى مصالحهم وحقوقهم، أما الأديان فمهتها تتعلق بالفرد وحده، وتأمره بالتعاون مع أفراد مجتمعه على البر والتقوى.

المعارك التي وقعت في عصور ما بعد النبوة قادها وتقاتل فيها رجال كلهم مسلمون قريبون من النبع الأول، ثم انقسمت "إمارة المؤمنين" إلى إمارات والخلافة إلى خلافات والدول إلى دويلات، وما زال الدم ينزف وسيظل ينزف ما دام هناك من يرى أن واجبه هو إقامة دولة للإسلام، وهو ما لم يطلبه منه الإسلام، فهؤلاء في الواقع لا يريدون سوى السلطة والحكم، لدرجة أن بعض "الإمارات الإسلامية" اليوم تعين ولاتها على مدن وأقاليم في بلدان لا سيطرة لهم عليها، تعين (القاعدة) أمراءها على الأقاليم، وتعين (داعش) ولاتها على ذات الأقاليم، يفعلون ذلك في الوقت الذي يختبئ فيه "أمراء المؤمنين" في الكهوف وتحت الأرض!

بعض المسلمون اليوم، يهربون من ديارهم إلى "دار الكفر" يبحثون فيها عن مصلحتهم في الأمن والحياة، وتركوا أوطانهم للذين يتقاتلون لإنشاء دولة من الوهم، فلم تتحقق ولن تتحقق دولة إسلامية على غرار القاعدة شرقا وبوكو حرام غربا مرورا بداعش في الوسط، تقيم الخلافة وتظن أنها تخدم الإسلام عن طريق تدمير المسلمين وإفساد الأرض والحرث والنسل.

من أراد السلام وعمارة الأرض فليضع مصلحة وطنه ووحدة مواطنيه ومستقبل أبنائه فوق كل اعتبار، ولن ينقص من إسلامه شيء.