رحل جورج طرابيشي بالأمس بعد عقود طويلة من القلق، والكتابة، والسير في عالم الأفكار. هذا المفكر العربي السوري العملاق قضى عقوداً طويلة وهو يركض بلا توقف، ويتنقل بلا هوادة، ويظعن فكرياً إلى مرابع هيجل الألماني، مروراً بماركس المادي، ومعرّضاً بالوجودي سارتر، ومتقناً للدرس النفسي برؤيته الفرويدية وفي كل هذا الرحيل الشاق، كان يرحلُ دون أن يلتفت!
جورج طرابيشي مفكر عربي سوري ولد سنة 1939، حصل على الماجستير من جامعة دمشق، وأقام برهة من الزمن في لبنان، مشتغلاً بالصحافة والإعلام، ثم حين اندلعت الحرب الأهلية حمل حقيبته وروحه القلقة إلى باريس. استقر بقية عمره في مدينة الأنوار لكنه كان متيّماً بالشرق، ووفياً له، مهجوساً بأمته ومأزقها الحضاري، وهذا ما يفسر تفرّغه في باريس للترجمة والتأليف والكتابة.
جورج كان رحالة ليس على مستوى المكان، وإنما على مستوى الزمان، والأفكار، ولذلك قدّم ترجمات في غاية الرصانة لعيون الفكر الغربي بلغت العشرات، فترجم لهيجل، وفرويد، وماركس، وسارتر، وجارودي، وسيمون دي بوفوار، وغيرهم، وتوزّعت تآليفه الفكرية والنقدية بين الفلسفة، والأيديولوجيا، والتحليل النفسي، والنقد الروائي والأدبي، فمعجم الفلاسفة كان كتاباً متخصصاً في أعلام الفلسفة ومصطلحاتها، ومفاهيمها، أما كتابه (هرطقات) فقد صدر في جزءين يناقش فيهما قضايا الديموقراطية، والحداثة، وحقوق الإنسان وفقاً لمنهج تاريخي صارم، معتبراً الضرورة العلمانية هي الحل الخلاصي لمأزق الأمة العربية من أمراضها الطائفية، والثقافية.
يُحسب لطرابيشي ريادته في تطبيق مناهج التحليل النفسي على خطابات المثقفين العرب، كما هو واضح في كتابيه: (المثقفون العرب والتراث)، و(من النهضة إلى الردة). ثم كان مشروع طرابيشي الضخم المتمثل في نقد مشروع المفكر المغربي محمد عابد الجابري المتخصص في نقد العقل العربي، حيث عمد طرابيشي وكما قال عن نفسه ذات يوم إلى تغذية ثقافته التراثية من جديد، ففضلاً عن هضمه للتراث الغربي، واليوناني، فقد عاد إلى دراسة التراث العربي وفحصه بمجالاته الصوفية، والكلامية، واللغوية، وكانت حصيلة ذلك أن أنتج طرابيشي كتباً خمسة في نقده لمشروع الجابري أبان فيها بكل اقتدار ووفقاً لمنهجية صارمة ودقيقة عن الثغرات الأبستمولوجية، والمنهجية فيما شيّده الجابري في أجزائه الأربعة، مزحزحاً فيه عدداً من أفكار الجابري المركزية منها تلك الفكرة القائلة بأننا أمام مشرق عربي غنوصي وبياني، ومغرب عربي برهاني! كتاب طرابيشي الخامس والأخير في رده على الجابري صدر بعد وفاة هذا الأخير، وعنوانه: (من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث)، وفي هذا الكتاب اتضحت شخصية طرابيشي وبدا الكتاب وكأنه ليس رداً على الجابري الذي كان فيه متوارياً وهامشياً، إذ مثّل هذا الكتاب رؤية جديدة حيال الفكر الديني الإسلامي، معتبراً طرابيشي أن الإسلام كدين قد تعرض بعد موت النبي الأعظم إلى نشأة مستأنفة بمعناها الخلدوني، وهكذا بدأ يحفر معرفياً في مسألة انتقال الإسلام من مجاله القرآني إلى الحديثي عبر التمركز حيال النشأة الحديثية التي بدأ تدشينها وتضخمها بشكل تصاعدي في القرون الثلاثة الأولى. كان هذا الكتاب الذي يعد الجزء الخامس من نقده لصاحب مشروع نقد العقل العربي هو الأخير عند طرابيشي وهو في تقديري الأهم على الإطلاق في ركضه وارتحاله الفكري.
وفي أثناء اندلاع الثورة السورية لم يكتب طرابيشي سوى مقالين الأول ذو بُعد تراجيدي تحدث فيهما عن النظام السوري الذي ابتلع كل شيء في سورية! والثاني الذي كان الأخير في حياته والأشد تراجيدية يتحدث فيه عن محطاته الفكرية، ونادباً نفسه ووطنه في الوقت نفسه، وكأنه ينظر إلى الغيب من ستر رقيق وأن وفاته قد حانت، حيث ختمه بقوله: (يبقى أن أختم فأقول إن شللي عن الكتابة، أنا الذي لم أفعل شيئاً آخر في حياتي سوى أن أكتب، هو بمثابة موت. ولكنه يبقى على كل حال موتاً صغيراً على هامش ما قد يكونه الموت الكبير، الذي هو موت الوطن)!
خلاصة القول: من سيؤرخ للفكر العربي في عصره الحديث والمعاصر فإنه سيتوقف كثيراً عند هذا المفكر العربي الكبير، الذي كان سفره بين الأفكار لا يعني سوى إخلاصه، وصدقه، وامتلاكه لروح حرّة، وقلقة !