حينما كانت التربية أمرا اجتماعيا مشتركا بين كل عناصر المجتمع من الأسرة إلى الأقارب والجيران والمسجد كانت الحياة جميلة ونظيفة وهادئة، وبعد ظهور التعليم دعمت المدارس الدور التربوي الأسري كثيرا، وأصبح هناك تكامل كبير بين المجتمع والمدرسة في التربية، بل إن نجاح التعليم في الماضي وجودة مخرجاته سببهما الأول الأساس التربوي المتين اجتماعيا وتعليميا، خاصة أن التعليم كان يقوم على كثير من القيم التربوية والأنشطة اللاصفيّة كالمسرح والمسابقات والحفلات السنوية والمراكز الصيفية والمخيمات التربوية، ثم حدث الانقلاب الكبير في التربية عبر عدة مراحل:
كانت أولاها: ظهور النفط ودخول الناس في دوامة المال والرّفاهية وإهمال التربية، ثم كانت المرحلة الثانية: ظهور ما عُرف بالصحوة التي سلبت المدارس دورها التربوي من خلال إيقاف الكثير من الأنشطة المدرسية بحجة أنها من اللهو الذي لا يليق بميدان التعليم كالمسرح والحفلات السنوية بما فيها من زخم تربوي كبير، بينما ركّزت كثيرا على المراكز الصيفية والمخيمات التربوية. وكانت المرحلة الثالثة: ظهور الإرهاب وهو ما أدى إلى إيقاف معظم برامج الأنشطة أو تقليصها أو تحديد مهامها بشكل أفرغها من محتواها التربوي، خاصة المراكز الصيفية والمخيمات التربوية، بعد أن ظهر أن هناك من استغل تلك المراكز والمخيمات لخدمة توجهات فكرية معينة تمس الوحدة الوطنية، ثم كانت المرحلة الرابعة: ظهور الإرشاد الطلابي ولكن وفق رؤية ناقصة ومبتورة، تركزت على منع قاعدة الثواب والعقاب في الميدان التعليمي، وهي قاعدة تربوية ربانية منذ بدء الخليقة، دون توفير البدائل التنظيمية التربوية المناسبة للمحافظة على التوازن التربوي، ثم زاد الأمر سوءا بفصل التربية عن التعليم، ونتج عن ذلك أن فقدت المدارس دورها في التربية وفي التعليم أيضا، ثم كانت المرحلة الخامسة: ظهور حقوق الإنسان وأيضا بمفهوم ناقص ومبتور تركّز على كف أيدي الأسرة عن تربية أبنائها بحجة محاربة (العنف الأسري)، هذا فضلا عن توفير الحماية لكثير من الأبناء والبنات العاقين لأسرهم تحت نفس الحجة (العنف الأسري)!
هذه المراحل الخمس في اعتقادي أوجدت فراغا تربويا هائلا، حيث فقدت الأسرة والمجتمع والمدارس على التوالي أدوارها في التربية وهي مصادر التربية الأساسية، وكان أن توافق هذا الفراغ التربوي الهائل مع ظهور وسائل التقنية الحديثة وهيمنتها على حياة الناس وسرقتها لأوقاتهم وعقولهم، وتوجيهها لأفكارهم، بدءا من البث الفضائي المفتوح ووصولا إلى برامج التواصل الاجتماعي الحالية.
وهكذا ارتبط ظهور الكثير من الانحرافات السلوكية في المجتمع بهذه المراحل الخمس، فظهر في البداية التفحيط قبل أكثر من ثلاثين عاما وكان ظهوره مرتبطا بالطفرة المادية ورفاهية النفط، وبعد إيقاف الأنشطة المدرسية وتقليص المراكز الصيفية والمخيمات فكان ظهوره نتيجة الفراغ التربوي الذي وقع فيه الشباب، ثم تلاه ظهور المخدرات وانتشارها، ثم ظهر الإلحاد، ثم الإيمان بالأفكار المنحرفة كداعش، ثم أخيرا الانحرافات الأخلاقية مثل تشبّه الرجال بالنساء وتشبه النساء بالرجال، والعجيب هو دفع ملايين الريالات وعقد المؤتمرات والندوات وعمل الدراسات والبحوث وإقامة ورش العمل والدورات التدريبية لإيجاد حلول لهذا الانحراف! ولإيجاد حل لهذه المعضلة التربوية الكبرى، مع أن الأمر واضح، والحلول معروفة، لكن الإنسان يصنع مشكلاته بنفسه ثم يخسر عمره ووقته وماله لحل هذه المشكلات.