أزعم بأنني من أكثر الناس متابعة للثورة الإيرانية التي تزامن اندلاعها مع ابتعاثي إلى بريطانيا، وكنت في ذلك الوقت من المتفائلين بها خيراً، لكونها ثورة على الاستكبار العالمي، كما كانوا يسمونها، وعلى الإمبراطورية الوثنية الفارسية التي احتفل الشاه محمد رضاء بهلوي (شاه إيران) بمرور ألفي سنة على قيامها، خصوصاً أن الشاه كانت له صورة قاتمة في أذهان كثير من الناس في ذلك الوقت، لأنه كان يُطلق عليه في أوساط اليسار العربي الهالك شرطي أميركا في المنطقة، وكانت كراهية أميركا أو سبّها في ذلك الوقت موضة العصر، وعلامة من علامات الثورية والتقدم، ولكونها - أي الثورة الإيرانية- أعلنت على لسان مرشدها آية الله الخيمني بأنها ثورة إسلامية، وأنها تنادي بأممية الإسلام؛ وأن الخليج العربي خليج إسلامي وليس عربياً أو فارسياً، وأنها لا تحمل أحقاد الماضي على العرب، وليس لها أطماع في بلادهم بما فيها الجزر الإماراتية الثلاث: طنب الكبرى، وطنب الصغرى، وأبو موسى التي احتلها الشاه في 30 نوفمبر 1971 على مسمع ومرأى من بريطانيا التي كانت وما زالت - حينذاك- مسؤولة عن حماية تلك الجزر حتى الثاني من ديسمبر من العام نفسه، طبقاً لمعاهدة الحماية البريطانية السارية المفعول من عام 1820م، وأنهم – أي الإيرانيين- لا يطمعون في بناء قوة عسكرية جبارة تهدد جيرانهم، كما هو الحال في أيام الشاه، وأردفوا القول بالفعل حينما زعموا بأنهم ألغوا صفقات التسلّح الكبرى مع أميركا، وسرّحوا كبار الضباط المعروفين في عهد الشاه، وأظهروا أو تظاهروا بأنهم لا عداوة لهم مع العرب. وبَدَا كل شيء في ظاهره مبشراً بعلاقات حميمة بين إيران وجيرانها تقوم على حسن الجوار والأخوة الإسلامية والاحترام المتبادل.
إلا أن الواقع الفعلي لسلوك إيران الثورة هو انجرافها، بل وارتماؤها في أحضان الأنظمة العسكرية العربية التي تسمي نفسها ثورية وهي انقلابية دكتاتورية، فتأثرت بدعايتها، وخطابها العدائي تجاه من يصفونهم بالرجعية، ويعنون بها المملكة العربية السعودية، ودول الخليج العربي، وأخذت أبواق إيران تنادي بتصدير الثورة إلى تلك الدول، وبالموت لأميركا وإسرائيل، وأغلقت سفارة إسرائيل في طهران، واستبدلت بها سفارة لفلسطين، وأخذ المتظاهرون فيها يحملون صورة ياسر عرفات إلى جانب صورة الخميني في مظاهراتهم، وهذا وإن بدا شيئا مفرحاً لكثيرين ممن قلوبهم على القضية الفلسطينية بحق وحقيقة إلا أن إيران الثورة سرعان ما رمت صورة ياسر عرفات، وانحازت ضده، وضد منظمة فتح التي يرأسها، ومالت بصورة كلية إلى فصائل متطرفة، وفي مقدمتها قوات الصاعقة الموالية لبعث سورية، وانحازت بصورة مكشوفة إلى الحكم العسكري في الجزائر، ونظام البعث في سورية، والنظام الماركسي في عدن في عهد عبدالفتاح إسماعيل، ثم في عهد خليفته علي ناصر محمد الذي تعاطف مع إيران في حربها مع العراق، وظل الود قائماً بين علي ناصر محمد وبين إيران حتى إن إيران تحمست له أخيراً حينما طرح اسمه لرئاسة اليمن بُعيد دخول الحوثي إلى صنعاء، وبداية البحث عن رئيس توافقي لليمن.
وناصبت إيران العداء لبعض الدول العربية المعتدلة ومنها الأردن، ومصر والمغرب، ولم تستثنِ إيران من صداقتها مع هذه الدول العسكرية المتطرفة سوى نظام معمر القذافي لاتهامه بأن يده ملطخة بدم موسى الصدر الذي اختفى في ظروف غامضة في أثناء زيارته إلى ليبيا في 25 أغسطس 1978 ولم يُعرف مصيره حتى اليوم. وبَعْث العراق في عهد الرئيس صدام حسين الذي تولى رئاسة الجمهورية العراقية خلفاً لأحمد حسن البكر في يوليو 1979، أي بعد أشهر قليلة من اندلاع الثورة الإيرانية في فبراير من العام نفسه، وذلك بسبب بعض الخلافات الحدودية المترتبة على الغُبْن الذي تركته اتفاقية الجزائر الموقعة في 1975 بين العراق وإيران في زمن الشاه بخصوص اقتسام مياه شط العرب، وهي اتفاقية عدّها العراقيون مجحفة بحقهم؛ لكونها فُرضت عليهم فرضاً بسبب قوة شاه إيران وجبروته، وتحريكه ودعمه للأكراد بزعامة مصطفى البرزاني الذي هدد أمن العراق، وعمل على استنزاف موارده، ولم تنته المسألة الكردية إلا بعد توقيع اتفاقية الجزائر، وإيقاف الدعم الإيراني عن الأكراد.
أما نظام البعث السوري، فكان لعلاقات إيران به النصيب الأوفى، والقدح المعلى، فهو معلمها وملهمها ومنقذها من الهزيمة على يد صدام حسين، وحتى من فشل الثورة، وذهابها أدراج الرياح، ذلك أن الملالي بعد تخلصهم من رجال السياسة التكنوقراط من أمثال كريم سنجابي، وإبراهيم يرذى، وصادق قطب زاده، والحسن بني صدر لم يجدوا من يقف معهم، ويعلمهم ألاعيب السياسة، وفنون الاستخبارات والتكتيكات العسكرية في حربهم مع صدام حسين سوى بعث سورية. وقد أتقن الملالي اللعبة التي تعلموها من السوريين حتى بدت الثورة الإيرانية بعمامة دينية في جلباب بعثي حِيْك من خامة رديئة، ولكنه حسن التفصيل محكم الأزرار إلا أنه حالك السواد، ولا يخفى سواده ما بداخله من التنكر لمبادئ الثورة الإسلامية على كثير من معاصري تلك الثورة، ومتتبعي الأحداث التي تلتها حتى تورطهم في سورية في الوقت الحاضر.
قد يقول قائل إن ذلك يعود لاعتبارات مذهبية، ويرد على هذا القول بأن النظام السوري وعلويي سورية في ذلك الوقت علمانيون لا يقيمون للدين والمذهب وزناً، وأنهم - وهم المتحدرون من المذهب الإسماعيلي- يُعَدّون عند الشيعة الجعفرية في الدرك الأسفل من النار، وذلك لأسباب عقدية تدخل في صميم المذهب، وتناقض كل النظريات التي تقوم على مبدأ تسلسل الأئمة الاثني عشر، وعقيدة الإمام المنتظر وولاية الفقيه المترتبة على تلك العقيدة. ولكنها في واقع الأمر علاقة مصالح كانت في زمن الثورة الإيرانية والحرب الإيرانية العراقية تقوم على العداء المستحكم بين نظامي صدام حسين والخميني من جهة، وبين نظامي صدام والأسد من جهة أخرى، واتهام بعث العراق لبعث سورية بأنه نظام عميل ومرتدّ، وأنه سبّب العطش للعراقيين بإقامته سد الفرات، وأنه وراء مقتل حردان التكريتي وزير الدفاع العراقي، وأن الحرب بين القطرين البعثيين كانت قاب قوسين أو أدنى من الوقوع لوجود حشود عسكرية في مواجهة بعضهما بعضا على حدود الدولتين عشية اندلاع الثورة الإيرانية، وقد ظلت هذه المصالح بين ملالي الثورة الإيرانية ونظام البعث في سورية قائمة حتى اليوم، وهي التي تتحكم فيما يجري على الساحة اللبنانية، وفي تدخل إيران إلى جانب الأسد في حربه ضد معارضيه، وهذه تحتاج إلى وقفة أخرى.