مع تنوع وسائل الاتصال والتواصل في الوقت الحالي، أصبح تداول الأخبار والمعلومات سريعا وسهلا ومتاحا للجميع، والتنافس على السبق الإعلامي لم يعد محصورا بين وسائل الإعلام المعروفة سابقا من قنوات مرئية أو مقروءة. كل فرد بالمجمل ممن يحمل جهازا ذكيا أو يجلس إلى شاشة حاسوب يستطيع تداول الخبر أو خلقه ونشره دون احترافية ودون دقة أو مراعاة للمهنية العالية التي يتطلبها العمل الإعلامي ولا مواثيقه الأخلاقية والأدبية.

وحينما أقول المواثيق الأخلاقية الإعلامية فأنا هنا أقصد جزءا محددا منها بعيدا عن الأمور الأخرى التي ترعى وجودها المؤسسات الإعلامية المحترفة والمهنية، وتهتم لها فيما يصدر عنها وفي من يعمل لديها أو يكتب معها إذا كانت مقروءة. على رأس هذه المواثيق الأخلاقية يأتي التزام المسؤولية فيما ينشر ويكتب بأن يكون صحيحا ودقيقا. ولكن هذه المسؤولية ينبغي أن تتوقف وإن كانت صحيحة عند حدود حرية الآخرين واحترام الكرامة الإنسانية وحرمتها، ومراعاة هذا الشأن للمتلقي ولمادة الخبر على السواء. ما يحدث مؤخرا أن كثيرا من وسائل الإعلام في النشرات الإخبارية أو في الصحف المقروءة لم تعد تبالي بنشر صور تتعارض مع "مواثيق أخلاقيات الإعلام"، خاصة تلك الصور التي يظهر فيها بعض المعتدين بأي جرم كان أو المعتدى عليهم، أو صورا لأشلاء وبقايا دماء وغيرها.

في إظهار صور تتعارض مع الكرامة الإنسانية أو ما تتقبله النفس البشرية السوية تعارض مع أخلاقيات الإعلام والنشر، هذه الأخلاقيات قد لا تكون منصوصة بقوانين مكتوبة ومتعارف عليها بين المؤسسات الإعلامية وقد لا تحتكم لسياسة معينة، وربما هي أخلاقيات فردية تقوم على أساس ديني أو نفسي وتتفاوت من منظومة لأخرى ومن شخص لآخر. اعتياد رؤية مثل هذه التجاوزات في النشر للضحايا من الطرفين يجعل المشاهد والمتابع يعتاد رؤية مناظر الدم وأخبار القتل وصور الأشلاء دون شعور بمدى فداحة الجرم الذي دفع إلى مثل هذا العمل، حتى أصبحت مع الوقت ومع سخونة الأحداث السياسية في المنطقة رؤية القتلى متاحة ومستساغة دون إنكار أو شعور بالغرابة أو الفداحة.

في أحداث تفجيرات باريس في نوفمبر 2015 التي راح ضحيتها 130 شخصا أغلبهم في مسرح باتاكلان، ومن خلال متابعتي للقنوات الإخبارية الفرنسية والعالمية لم أشاهد وقتها صورة واحدة لأحد الضحايا أو حتى المعتدين. كانت وسائل الإعلام الغربية تعمل بحرفية إنسانية تامة، تنقل خلالها الخبر بالتفصيل وبالتوثيق من الشارع مباشرة دون أن تصدم شعور المتابع بأي مناظر دموية وغير إنسانية حتى وإن كانت للطرف المعتدي. وإن حدث وظهرت بعض الجثث فإن التمويه على الوجوه يخفي أي ملامح يستدل بها على أصحابها.

العكس تماما يحدث فيما أصبحنا نراه في وسائل إعلامنا الإخبارية المرئية أو المقروءة، وفي قنوات التواصل الاجتماعية التي تدار بجهود فردية واجتهادات شخصية. على سبيل المثال نرى من يتسابق في نشر صور أطفال الشهداء من ضحايا التفجيرات أو الحدود وهم في أشد مواقف حياتهم حرجا وحزنا، ولا يترددون في المزايدة على دمعهم وجراحهم وضعف اللحظة التي يمرون بها. أو من يعرض صور من تعرض لاعتداء أيا كان نوعه، أو حتى من فارق الحياة بصورة طبيعية أو غير طبيعية. وأيضا يتم نشر وتداول صور بعض الإرهابيين والمجرمين في صحفنا وإعلامنا المحلي بعد أن لقوا مصائرهم التي يستحقونها دون اعتبار بأن هناك من يتابعهم من صغار السن أو غير المتزنين في تفكيرهم ونفسياتهم أو حتى الأسوياء ممن قد تترك لديهم هذه المناظر البشعة تأثيرا ينعكس سلبا على حياتهم، أقله تبلد المشاعر وعدم الإحساس بفداحة جرائم القتل وسفك الدماء.

لا يستطيع أحد إنكار تأثير وسائل الإعلام على شخصية الجيل الحالي والقادم وقدرتها على تثبيت بعض العادات والأفكار عن طريق التكرار المقصود أو غير المقصود الذي يحدث من خلالها، والاستمرار في التمادي في نشر الصور التي تتعارض مع ما تتقبله النفس البشرية أو ما يتعارض مع كرامة الإنسان هو مساهمة في خلق أجيال مشوهة نفسيا وقد تميل للعنف بشكل لا إرادي في تصرفاتها وانفعالاتها.

يتبقى السؤال المهم ونحن في عصر الثورة المعلوماتية والتقنية: هل يوجد لدى المؤسسات الإعلامية السعودية على وجه الخصوص مواثيق أخلاقية تقوم عليها في عملها الصحفي والإعلامي؟ وهل هي معلنة ومرعية ومتابعة؟

إن وجود قوانين للنشر الإلكتروني ونظام لمكافحة جرائم المعلومات يحتم وجود لائحة للنشر وللأخلاقيات الإعلامية التي تلتزم بها المؤسسات والأفراد، لائحة تعنى بالجوانب الاجتماعية والنفسية للمجتمع وتسهم بصورة إيجابية في توجيه السلوك العام للأفراد دون الحرص على شهوة الشهرة والانتشار على حساب الإنسانية وكرامة الأفراد.