يحتار العاقل في أي المطالب هي التي تتصدر مطالب الناس اليوم، في هذا العالم المعاصر؟ وبقليل من التروي سنجد أن مفردة (السلام) ومشتقاتها هي من يتصدر المشهد؛ وبالمناسبة فكلمة السلام ومشتقاتها ومرادفاتها تعود إلى معنى واحد مهم، هو الخلو والنجاة من الآفات والعاهات والعيوب الظاهرة والباطنة، وأنها ذكرت في القرآن الكريم في (132) موضعا، بينما لم تُذكر كلمة (الحرب) ومشتقاتها إلا في (6) مواضع فقط.
تحقيق مطلب السلام الداخلي والخارجي يحتاج فيما يحتاج إلى التعاضد لإفشال ما نشأ في العقول عن التطرف والإرهاب والحروب، وهنا تبرز أهمية تحصين عقول الناس من الوقوع في هذه الآفات، بل وعقول الأجنة قبل ولادتها؛ وعندما أقول "الأجنة"، فذلك لأن الأبحاث أطلعتنا وتطلعنا إلى أن الحمض النووي للجنين يتأثر وهو ينمو في رحم أمه بما تتعرض له أمه من توترات انفعالية واعتداءات نفسية، وأنه ـ أي الجنين ـ لا يعيش في عزلة عن الوسط الخارجي ومثيراته، بل هو يتفاعل ويستجيب بما سينعكس سلباً ـ أو إيجابا ـ على بنيته النفسية، وليس غريبا أن يكون هذا الجنين يوما ما إرهابيا محترفا لا هاويا.
أنا وإن كنت لا أريد أن أستمر في التفكير بخصوص أجنة الأمهات اللواتي يعشن الحروب والتهجير والترحيل والتشريد، وكيف ستكون أحوالهم عندما تلدهم أمهاتهم؟ إلا أني لا أستطيع أن أغفل ذكر أن التحديات التي تواجهها المجتمعات اليوم عديدة جدا؛ وربما مستعصية.. صحيح أن من هذه التحديات المادية: الفقر والبطالة والأمراض والإدمان وغير ذلك؛ إلا أن المعنويات من التحديات أشد فتكا وضررا، وأذكر على سبيل المثال: الصراعات الفكرية بين الأفراد والمجتمعات، وهذه وحدها وبسبب طغيانها لا أراها إلا أنها السبب الأكبر في صرف الأمة عن جهودها، وتضييع هويتها، ودفعها إلى الفرقة والخصام والنزاعات.
التشاؤم مرفوض، ومع ذلك فإن سرعة تدارك الخلافات، ومحاصرة نيرانها، ومكافحة محاولات تفكيك النسيج الوطني، من آكد الأمور؛ فهناك قيم كثيرة يمكن أن يتفق عليها الناس، وهذه المتفق عليها لا بد من التعاهد على احترامها، لا سيما وقد ثبت للجميع أن الانزلاق في إثارة الناس عاد سلبا عليهم، وأنهم بسبب عدم تحجيمهم للقيم المضادة في حينه خسروا كثيرا.
الساحة المحلية والخارجية تضج من الآراء الشاذة، والفتاوى الغريبة، والأفكار العجيبة، والمكائد، والكمائن، والناتج الطبيعي لهذا كله إن لم يتم تداركه هو المزيد من الإثارة، المبنية على أساس أن الكراهية واجبة على المخالف، ومعلوم أن الكراهية تعقبها الفوضى، والفوضى وراءها الندامة. ولا بد من أن يعي المتصدرون للعلم؛ الشرعي قبل غيره، أن كلماتهم لها تأثير، وأن الموضوعية مطلوبة، خصوصا وأن الظروف الحالية بالغة الدقة، كما أن على كل متصدر أن يعتني كل الاعتناء بفهم الواقع المعاش، وعليه أن يكلف نفسه التعرف على ملامح المستقبل، لأن المخزون القديم الموجود في الصدور والسطور وإن كان جميلا، إلا أن إمكانية تنزيله على الواقع هي المعيار في أخذه ورده.