أوّل مرة سمعت فيها بمنطقة حفر الباطن السعودية كانت في 27 مارس 1990 عندما زار صدام حسين الملك فهد بن عبدالعزيز. يومها ظهرت إلى العلن نوايا العراق بالتمادي في الأزمة مع الكويت والتي بدأت باتهام الكويت بسرقة النفط العراقي عبر الآبار المحاذية للحدود مع العراق، والتي ترافق معها انهيار سعر برميل النفط. إنّ السابع والعشرين من مارس 1990 يمكن اعتباره بداية انهيار النظام الإقليمي العربي والذي أوصلنا إلى ما نحن فيه من خواء إستراتيجي.
أشهر أربعة فقط كانت بين لقاء حفر الباطن واحتلال العراق للكويت في 2 أغسطس 1990، والذي استدعى إلى قيام تحالف دولي عربي لعملية ما عرف بعاصفة الصحراء، والتي شاركت فيها دول إعلان دمشق التي شاركت مع القوى الأميركية والتحالف الدولي في عملية تحرير الكويت، والتي انتهت بخروج القوات العراقية وتشتّتها وارتكابها مجازر في طريق عودتها، وتداعي سلطة الدولة المركزية على شمال العراق وجنوبه وخضوعه لما عُرف بالعقوبات الدولية أو بالنفط مقابل الغذاء.
جاءت عملية صدام حسين بعد القرار الدولي 598 عام 1987 الذي أنهى الحرب العراقية - الإيرانية مع ما ترتّب عليها من أكلاف مادية وبشرية على الدولتين، ومع بداية ما عُرف بالتطبيع بين إيران الخميني وأميركا، بعد فضيحة "إيران جيت" التي كشفت سياسة أميركية جديدة عُرفت بالاحتواء المزدوج، أي دعم العراق وإيران، ورغم تأييدها للعراق علناً فقد كانت تبيع أسلحة لإيران سرّاً في الوقت عينه.
ترك احتلال الكويت آثاره البالغة على جامعة الدول العربية. وتوقّف انعقاد القمم العربية على مدى عشر سنوات بسبب التوتر الذي أحدثته عملية احتلال الكويت عام 1990، خصوصاً تلك المشادة العنيفة بين أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الصباح، الذي كان حينها وزيراً للخارجية، وطارق عزيز وزير خارجية العراق آنذاك. وتوقف العمل العربي المشترك حتى عام 2000، أي حتى قمة محمد الدرة بعد انتفاضة الأقصى الشريف. وبعدها كانت قمة عمان 2001 التي أسّست لدورية القمم العربية السنوية على أن تعقد في النصف الثاني من مارس من كل عام، والتي تلتها قمّة بيروت 2002 التي قدّمت المبادرة العربية للسلام.
جاء احتلال العراق عام 2003 ليضع المنطقة العربية مرّة أخرى أمام تحديات سقوط بغداد الثالث في التاريخ، إذ إنّ السقوط الأوّل كان على أيدي المغول والثاني من الدولة الصفوية والثالث من أميركا وإيران معاً، والذي أنتج كل ما نشاهده الآن من فوضى وتدخّل ونزاع في كلّ من اليمن وسورية والعراق ولبنان وغزة والضفة الغربية، مما استدعى إلى قيام عاصفة الحزم في اليمن ونشوء التحالف العربي بقيادة السعودية، ومن ثم الدعوة إلى تشكيل قوة عربية وإسلامية لمواجهة الإرهاب، بعد أن ثبت عدم جدية التحالف الدولي الإقليمي في محاربة داعش وبعد دخول روسيا مباشرة على خطّ النزاع في سورية.
كثيرة هي الشواهد والأزمات والانهيارات التي تعيشها منطقتنا منذ ربع قرن من الزمان وعلى كل المستويات، وخصوصاً ما شاهدته المنطقة منذ سقوط بغداد الأخير، وتمدد إيران في الإقليم دون رادع أو رقيب، لا سيما في السنوات الخمس الماضية، إذ أخذت الفوضى الخلاّقة أشكالاً مفجعة في أكثر من بلد عربي. ولدى كلّ مواطن مئات الروايات عن تلك الانهيارات والأزمات، حتى أصبح التوصيف الذي أطلقه الأمير الراحل سعود الفيصل عن الخواء الإستراتيجي مصطلحاً شائعاً، إلاّ أنّ ذلك الانطباع بدأ يتغيّر مع صدمة الحزم في اليمن.
إنّ العاشر من مارس 2016 في حفر الباطن هو نهاية الانهيار الذي بدأ في 27 مارس 1990، وهو تاريخ انتقال العرب من الخواء الإستراتيجي إلى الامتلاء الإستراتيجي. كانت دعوة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز القادة العرب والمسلمين لحضور البيان الختامي لمناورات رعد الشمال في حفر الباطن بمثابة إعادة تأكيد على تماسك النظام العربي وتطوير العمل العربي المشترك، من القمم الشكليّة إلى العمل الميداني في مواجهة التحديات، وتغيير ثقافة الانهزام بثقافة المواجهة.
لا أعتقد أنّنا يمكن أن نعرف الآن ماذا دار في هذه القمة غير المسبوقة، وهي قمة عملانيّة وعلى وقع العمليات العسكرية، وخصوصاً بوجود خادم الحرمين الشريفين والرئيس المصري وأمير الكويت والرئيس الباكستاني والرئيس السوداني واليمني وقادة مجلس التعاون الخليجي وبعض قادة الدول العربية والإسلامية. وهي بمثابة ورشة تحضيرية للقمة العربية في موريتانيا بعد اعتذار المغرب على استضافتها، وكذلك تحضيراً للقمة الإسلامية الدورية التي ستنعقد في إسطنبول في أبريل القادم، بالإضافة إلى مواكبة القضية الفلسطينية وحلّ الدولتين والمؤتمر الدولي للسلام. سنعرف في الأيام والأشهر القادمة الكثير الكثير عن هذا اليوم العربي الإسلامي التاريخي. وأعتقد أنّنا نشهد نهاية زمن انهيار كان قد بدأ في 27 مارس 1990 في حفر الباطن وبداية زمن جديد قد بدأ من حفر الباطن في 10 مارس 2016.