أحمد حسن الأحمدي
تلبستني صدمة جارفة وأنا أنظر إلى صورته التي وردت في أحد تسجيلات الفيديو التي عُثر عليها بحوزة إرهابيي القاعدة والتي بثتها قناة العربية في البرنامج الوثائقي "كيف واجهت السعودية القاعدة"، أخذتني الصدمة بعيداً جداً مسافة ثلاثين عاما عندما قابلته للمرة الأولى في السنة الرابعة من المرحلة الابتدائية، كان يجلس بجواري قصير القامة ونحيل الجسم، لكنه مفعم بالنشاط والحيوية وكان يبهرنا تميزه الملحوظ في ألعاب النشاط البدني، ذكي ولبق الحديث، خبرته في الحياة تسبق عمره، كان يتيم الأب ويعيش في كنف خاله، الذي يعمل بدوره معلما في نفس المدرسة، عده كأحد أبنائه ووفر له الاستقرار العائلي.
كنا في المدرسة كرفيقي درب نمضي معظم أوقاتنا داخل المدرسة معاً، كونه يعيش في حي بعيد عن المدرسة ويأتي برفقة خاله، كان يطمح بالذهاب إلى اليابان ليتعلم الكاراتيه، كان شغوفا بشتى ألعاب الحركة ويأمل في إتقانها، كان يحدثني عن مكتبة المدرسة وقصصها الجميلة ولكن كلما ذهبنا إليها نجدها مغلقة، كان يرسم ببراعة واحتراف، ولم يعره معلم التربية الفنية اهتماما ويوما ما توقف عن الرسم وسألته لماذا أجابني بإحباط "يقولون الرسم حرام".
تغير حاله بعد فترة وأخذ في ترديد أناشيد الجهاد التي كانت المادة الإعلامية الأبرز في كل مكان ذلك الوقت، حدثني عن الجهاد الأفغاني بشغف وعن بطولات المجاهدين وانتصاراتهم على الروس، أخبرني عن رحلات التخييم في البراري حيث يمارسون جميع الألعاب الرياضية ثم ينقسمون إلى مُعسكرين يغزو بعضهم بعضا ويختطفون بعض أفراد الفريق الآخر و... و... ويستمر في سرد حكايته بحماس بالغ وكأنه وجد ضالته المفقودة التي تحتويه وتحتوي مواهبه العديدة.
أفقت من صدمتي لأراه في مقطع آخر وقد محيت من وجهه كل براءة الطفولة وظهر بوجه شرس ينطق غلا وحقدا يكيل الوعيد والتهديد لوطنه وأهله، وتركت لنفسي استنتاج ما حدث له منذ تفرقنا طيلة هذه السنين من الدخول في أطوار فكرية متشددة استغلت ما بداخله من حماس وجدية في العمل لتخلق منه وحشا ضاريا ينقض لينهش في أقرب المقربين إليه ليفجر نفسه في أحد المواقع منتحرا والعياذ بالله خائنا لدينه ووطنه وأهله.
ظللت بعد ذلك أسأل نفسي ما عسى أن يكون مصيره لو ظل باب مكتبة المدرسة مفتوحا في تلك السنين الجميلة التي كنا نبني فيها لبنات أفكارنا؟ ما عساه أن يكون مصيره لو كانت الأندية الرياضية والفنية والثقافية موجودة في كل حي وتحت إشراف جهات تربوية موثوق في وطنيتها وفعاليتها لاستقطاب مواهب الأطفال والشباب؟ ماذا عسى أن يكون مصيره لو تخلصنا من بعض القيود البشرية التي فُرضت علينا من بعض الدعاة، وأثقلت كاهل الوطن في مسيرته التنموية والحضارية؟.
لا يولد الإنسان مجرما بالفطرة، وإنما الأصل فيه الخير ولكن للبيئة والمجتمع التي ينشأ فيهما الدور الأبرز في خلق فكره ومنهجه في الحياة وتعزيز قيم الصلاح في الأرض بدل الإفساد فيها، وأنا هنا لا أبحث لصديقي عن عذر فيما اقترفت يداه من كبائر، ولكن أسلط الضوء على ما أعتقدها أسبابا كامنة وخفية أسهمت بشكل ما في ظهور هذه التشوهات الفكرية في مجتمعنا المُسالم بطبعه والمحافظ على ثوابته الضاربة في أعماق الأرض منذ بعثه النبي عليه الصلاة والسلام. أتمنى من كل أعماق قلبي أن يستفيد علماء الدين والمربون والتربويون المخلصون لهذا الوطن من دروس الماضي لخلق حاضر ومستقبل بهي ومشرق يليق بنا نحن السعوديين وبأجيالنا القادمة.