منى العصيمي


عامة فساد الأولاد من الآباء مقولة ذكرها ابن القيم، والفساد سلوك يحيد بصاحبه عن جادة الحق وعن العرف السائد شاطا في السوء دون غيره، وبوابته الفكر، فكل سلوك ظاهر مصدره فكرة مختبئة في جنبات النفس، فإذا ما كان الفكر جميلا وأظهر صاحبه سلوكا مشينا سهل استعادة مساره بتوجيه أو بوقفة مع النفس جادة، أما إذا كان الفكر ملوثا فلا هادي له غير الله وحده، والأسرة هي المصنع الأول للفكر، وتعزز دورها وتوجهه المدرسة والمسجد، ففي دراسة أجرتها الجامعة الإسلامية على 100 شاب شملت أبرز المنضمين إلى القوائم المعلنة من وزارة الداخلية، تبين أن أهم أسباب الانحراف الفكري كان الجهل، حيث إن نسبة 78% من هؤلاء المنحرفين متسرّبون من التعليم ومؤهلاتهم من الثانوية فما دون، وذكرت الدراسة أيضا أن صغر السن يشكل سببا آخر مهما، حيث إن 75% من هؤلاء الشباب من تقل أعمارهم عن 30 سنة، وكذلك حديثو الاستقامة أو التديّن، و43% من هؤلاء الشباب هم ممن كانت لهم سوابق كالمخدرات، وبمجرد أن يتوب أحدهم ويتدين يبيّن له قادة الفكر المنحرف ودعاته أن التكفير عن ذنوبه إنما يكون بالدخول في مثل هذه التنظيمات، وكذلك فإن نسبة كبيرة منهم لديهم عدم استقرار أسري إما باليتم أو انفصال الوالدين أو غيره، ويعانون البطالة والفقر والإحباط وضعف الوعي بالظروف السياسية وارتخاء الثقة في العلماء، والشبهات الشرعية التي تروج من خلال الإنترنت، والقراءة المتأنية لنتائج الدراسة تجعل إصبع الاتهام موجها للأسرة، فدور الأسرة أحوج ما يكون له الوطن حين يكون الأبناء في عمر 7 سنوات، فهي لهم بمثابة الجسر الذي سينقلهم إلى المجتمع الكبير يؤثرون ويتأثرون، ومركبتهم في الانتقال السوي هي التنشئة السليمة، فإذا ما تمت في جو أسري آمن محفوف بالمودة والرحمة، وغرس القيم في النفوس حينا بالقدوة وحينا بالتوجيه الفعال يسانده الدعاء والرقابة الواعية بلا شطط ولا قصور، خرج لنا جيل ذو بنية نفسية تحتية قوية والعكس صحيح.

وقد أشارت الدراسات أيضا إلى أن أكثر أساليب التنشئة الاجتماعية انتشارا في الأسرة العربية هي أساليب التسلط والتذبذب والحماية الزائدة، حسبما أشار تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2003، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى زيادة السلبية وضعف مهارات اتخاذ القرار ليس على مستوى السلوك فحسب، بل وطريقة التفكير أيضا، حيث يعتاد الطفل على كبح التساؤل والاكتشاف، ومما يحول أيضا دون تنمية ملكاتهم الفكرية وقدراتهم الشخصية الإسراف في الخوف عليهم، والتشكيك الدائم في قدراتهم والوصاية المستمرة عليهم والحجر على آرائهم، فتقل ثقتهم في أنفسهم وتضعف قدراتهم على تحمل المسؤولية، وتكون محصلة كل ذلك إنسانا مذبذبا وعاجزا سهل التغرير به وسوقه خلف من يقوده إلى هاوية الانحراف، لا ملكة لديه ليعترض ولا ليمحص ما ينهال عليه من أفكار منحرفة خارجية يتلقاها عقله بيسر وسهولة، لقد تم تدجينه منذ الصغر من خلال أسلوب القمع ومصادرة الآخر فكريا، وتم طمس مهارات التفكير لديه.

ويمكنني تشبيه هذا الانحراف الفكري بالأخطبوط الذي يمد بأذرعه الفتاكة بيننا، ولا حل لنا إلا بالتكاتف فيما بيننا أفرادا ومؤسسات.