ما زال الانتماء إلى المناطق محددا أساسيا للهوية لدى الأفراد والأحزاب والمنظمات المدنية، ولم تتمكن الدولة الحديثة ولا التكوينات الجديدة من تجذير وعي المواطن الفرد، ففكرة المواطنة لم تتجذر في الوعي العام وما زالت تقرأ بالوعي التقليدي، فالعصبيات الجغرافية والمذهبية والعرقية والمناطقية محدد أساس في الوعي السياسي لمختلف القوى اليمنية، وهذا جعل الهوية الوطنية ضعيفة ومشتتة وغير واضحة، والصراع يدار على الموارد من خلال فكرة إعادة صياغة السيطرة على الدولة وفرض الهيمنة عليها، ولم تتمكن الجمهورية قبل الوحدة وبعدها من تثبيت سلطة مركزية قوية ولا تحويل أذرعها الشرعية إلى قوة مقبولة، بل تم شرعنة الحكم بأدوات القسر الشرعية وبأدوات ناعمة قائمة على المحسوبية، وعادة ما يتم صياغة توافقات نخبوية لإعادة توزيع الموارد لتجاوز النزاعات، ويتم الحديث عن بناء دولة المواطنة في الوثائق، وتكون الفكرة المحورية الحاكمة للمواطنة قائمة على فكرة بناء شراكة، وهي شراكة لا تركز على الفرد وحقوقه وإنما على مصالح الجماعات عبر زعاماتها، فالصراع في نهاية الأمر تديره النخب ذات الانتماءات المتعددة ويتم تعبئة الجمهور على أساس الانتماءات الأولية.

فالجنوب مثلا يحاول أن يعيد تكتيل وجوده على أساس جغرافي لبناء دولته أو للوصول إلى تقاسم سلطوي مع الشمال، ويبني هويته على هذا الأساس في مواجهة الشمال، وهذا لا يعني أن الجنوب لا يحتوي على تناقضات جذرية فهناك محاولة لجماعات إرثية وبالذات من حكموا دولة الجنوب السابقة لتنظيم نفسها وإعادة فرض هيمنة نخبوية صارمة على الجميع، دون أخذ العبرة من أخطاء الدولة السابقة ذات الطبيعة الإقصائية لكثير من الفئات الاجتماعية الأخرى التي أصبحت اليوم أكثر قوة وتأثيرا ووعيا بمصالحها والدفاع عنها، فهناك تشكيلات سلطوية تنمو باسم الجنوب دون فهم النزاع داخلها والذي خلق دورات من الصراع الدموي على أساس الانتماءات المناطقية داخل الجنوب، وما زالت مفاعيل صراع ما قبل الاستقلال وما بعده وصولا إلى الوحدة حتى الانقلاب والحرب الحالية قائمة وفاعلة، وربما أصبح الجنوب أكثر تعقيدا وتمايزا في تناقضاته الداخلية رغم محاولات كسرها وإخفائها بالهوية الجنوبية، وهي هوية ذات بعد جغرافي تجسد نفسها وتعبئ الجمهور من منطلق خطير يرتكز على كراهية الشمال والخوف منه، وعلى أساس الانفصال والعزلة عن كتلة سكانية كبيرة في الشمال ترى أن خنقها في الجبال لن يكون إلا مدخلا لحروب مستقبلية لن تتوقف.

والشمال لا يؤسس لهويته على أساس مواجهة الجنوب وإنما على أساس فكرة الدولة الواحدة لكن الصراع والنزاع بين الهويات المناطقية والمذهبية فيه أيضا فاعل، وهناك أحساس عميق بالتمايز والمغايرة بين التكوينات الشمالية، وما زالت العملية التحديثية لفكرة المواطن الحر بعيدة المنال، كما أن التنظيمات المتنوعة ذات البعد الحداثي طارئة وهشة، فالحزبية مثلا لا تمثل انتقالا حقيقيا في الوعي لصالح التنوير، فما زالت تحدد خياراتها الفعلية على مستوى الواقع على أساس الانتماءات الدنيا، وبدل التفكير بالأسس التقليدية لابتكار نظام يلائم الواقع يتم تدمير البنى الاجتماعية الفاعلة ويتم تخليق بنى مشوهة.

تشكل الكتلة القبلية لشمال الشمال أو ما يطلق عليه قبائل أعالي اليمن قوة الارتكاز القوية التي تملك عصبية متماسكة وتمتلك قدرات عسكرية وخبرة متراكمة في التعامل مع الصراع وصناعة الحكم وفق أساليبها التقليدية، ولديها قدرة على التماهي مع التشكيلات السكانية الأخرى فيما يخص بناء القوة لصالحها مع خلق عزلة ذاتية على أساس المغايرة العصبوية بنزعتها القبلية، وهي متنوعة ومتصارعة وداخلها تناقضات ثأرية ونزاعات غير قابلة للتفكيك، وبلغت ذروتها مع بروز الحوثية ولكنها تظهر قدراتها التعبوية في الأزمات وفي حالة بروز تهديد يهدد مصالحها بالشكل العادل والظالم، وهي تتحرك في مواجهتها بخطاب وطني أو ديني وتخفي عصبيتها ولا تتحدث باسم القبيلة والجغرافيا إلا نادرا، وقد فرضت هيمنتها على مداخل القوة الأكثر تأثيرا في اليمن الكثير من الاعتراض رغم أن نخبتها تمتلك شبكة من المحسوبية وتحالفات متنوعة شكلتها من خلال الدولة والعلاقات الاجتماعية والمالية، وممتدة عبر الجغرافيا اليمنية، والاعتراض على سيطرتها أنتجته القوى المعارضة غير المستفيدة بما في ذلك المعارضة داخل هذه الجغرافيا.

تمثل تعز حالة فريدة في شمال الشمال فهي عصبية مائعة ولكنها ليست فقيرة وهي ناضجة من حيث قدراتها على التعبئة الجماهيرية، ويمكن القول بأنها وسط بين عصبية الجنوب القابلة للانفجار من الداخل وبين عصبية أعالي اليمن القادرة على خلق توافقات داخلية في بنيتها لإدارة الحروب وفرض سيطرة على الحكم، لكن القوة التي تملكها تعز ناعمة وعادة ما توظف الأحزاب والتنظيمات المدنية والأداة التعبوية الثقافية ذات المنظور التحديثي في إدارة معركتها، لذا تعتمد على تحالفات العصبيات الأخرى في إدارة معاركها، ولم تتمكن من بناء منظومة جامعة على أساس جغرافي رغم إحساسها العميق والقوي بالانتماء للجغرافيا التعزية، وعادة ما تدير معاركها في اتجاهات متنوعة، فهي ضد الجميع وضد نفسها في الوقت ذاته مما يجعل الصراع معها وفق الأطر التقليدية الحاكمة للوعي السياسي اليمني ذات طابع إشكالي لدى مختلف الأطراف، فهي فاعل قوي ومؤثر لكن عقد صفقات معها لو عزلنا التجار والزعامات المحلية يصبح صعبا، فهي عنيدة وبالذات أطرها ذات الطابع المعارض وبشكل دائم، ولا يمكن تكتيل عصبيتها في مركز مؤثر، لذا تعتمد قوى المصالح داخلها وهي القوى الأكثر واقعية على الالتحاق بالتحالفات القوية التي تحميها وتساعدها على التنفذ وتجذير القوة بأبعادها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

تمثل تهامة اليمن الفراغ غير المنظم والأكثر معاناة، وهي كتلة قوة وتمتلك موارد كثيرة إلا أنها الأضعف في صراع التناقضات اليمنية، تهامة لم تشكل هوية مناطقية صلبة ولا هوية مذهبية متماسكة، وإنما إحساس بالظلم ضد ما يطلقون عليه الحجارية، ويقصدون بها تعز، والجبالية ويقصدون بها صنعاء ومحيطها، ولم تتشكل نخبة تهامية قوية ومنظمة، فما زالت كتلة جماهيرية قوية لم يتم إعادة رسم قوتها إلا عبر نخب تقليدية ذات نزعة تسلطية بلا مشروع، وهذا الشعور العميق المعترض على تعز وصنعاء شكلته صراعات تاريخية وليست طارئة كما يعتقد البعض بسبب الإقصاء الممنهج والمتعمد، أو لنقل التجاهل للساحل التهامي، فالصراع على الساحل التهامي في ظل دويلات الطوائف استمر لفترات طويلة على الرغم من أن أول استقلال عن الخلافة الإسلامية أنتجته زبيد إلا أنها فيما بعد ظلت نهبا لبقية الدويلات الطائفية، ولم يتغير الحال بعد تأسيس النظام الجمهوري، ومثلت الدولة النجاحية تاريخيا شكل متمرد ظل لفترات طويلة ينهك الدويلات الأخرى القادمة من إب أو صنعاء أو صعدة أو تعز.

تمثل المحافظات القبلية ذات الأبعاد البدوية في البيضاء ومأرب والجوف، نمطا مغايرا في الشمال، فهي كتلة قبلية متنوعة لكنها ظلت عبر تاريخها تدير معارك مضادة لهيمنة الدول الزيدية، ونادرا ما تمكنت من اختراقها وإخضاعها، والمذهبية لديها ليست إلا نوعا من المقاومة والتحدي، وليست مؤصلة على أساس عقائدي صارم وإنما قوة حماية أمام اختراق مجالها الجغرافي والاجتماعي، وهي بتركيبتها العصبية تتشابه مع قبائل الهضبة الشمالية وتقترب منها من حيث الصرامة في العادات والتقاليد والنزعة العسكرية، وهذه المحافظات لا تشعر بالمظلومية مثل بقية الجغرافيات فهي أقوى من أن تشعر بأنها مظلومة لكنها تبنت قوة معارضة قوية وحيوية وإن لم تكن منظمة ضد صنعاء حتى بعد الجمهورية، وبفعل التقارب النفسي بينها وبين أعالي اليمني كانت الصفقات والتوافقات النخبوية تحدّ من النزاع وتمكن من بناء تحالفات عبر الرموز الاجتماعية، وعادة ما يتم إشباع حاجاتهم وفق العادات التي أصلت لها دولة الجمهورية وتوارثها في عهد صالح، باعتبار النخبة هي مصدر الشرعية، وهذا الأمر أوجد خللا على مستوى شرعية السلطة في الأوساط الشعبية ولدى الطامحين، وظهرت في أوساط هذه المحافظات كتل معارضة قوية تظهر مفاعيلها القوية اليوم في الاعتراض على الحركة الحوثية التي تشكل حالة مضادة، وبعثت المظالم التاريخية التي كادت الجمهورية أن تتجاوزها.