نصت وثيقة الشارقة الصادرة عن المؤتمر الحادي عشر لرؤساء أجهزة التفتيش القضائي في الدول العربية على ثمان قواعد لأخلاقيات القاضي، وهي (الاستقلال، والتجرد، والنزاهة، وموجب التحفظ، والشجاعة الأدبية، والتواضع، والصدق والشرف، والأهلية والنشاط)، وسأعرض في هذا المقال أهم مضامين هذه القواعد مما له مساس عبر ما نراه من أخلاقيات وسلوكيات أعضاء السلك القضائي.

وحيث إن القضاء مهنة شريفة، وقد أضفى عليها الناس قدراً كبيراً من المهابة وشيئاً من القداسة، نظراً لما يسند إلى القضاة من ولاية هامة يصدرون بموجبها أحكاماً تؤثر على أمن المجتمعات وحياة الأفراد، فكان من اللازم تقيدهم بقواعد أخلاقية وسلوكية تحافظ على مكانتهم وتعزز مكانة القضاء في النفوس.

ولذا لن ترفع كفاءة القضاء واستقلاله ما لم يُلِم كل قاضٍ بالصفات والمزايا والقدرات والمكنات التي يجب أن يتحلى بها، وأن يحيط علماً بالمبادئ والقيم والأعراف والتقاليد التي يجب أن يلتزم بها، وذلك لتكون دستوراً له في سلوكه لحياته الخاصة والعامة، ويهتدي بها في مسيرته القضائية وسلوكه الاجتماعي والإعلامي.

وأول هذه القواعد هي (الاستقلال)، خصوصاً أن الكثير ينادي باستقلال السلطة القضائية عن بقية السلطات، ولكنهم لم يبينوا لنا المرجعية الإسلامية الفقهية والتاريخية لهذا المبدأ، فهم أخذوه من الغرب مع أنهم من أشد المحاربين للتغريب حتى غدت الحكمة التي هي ضالة المؤمن مسبة لديهم بسبب فوبيا التغريب التي يعيشونها ونظرية المؤامرة التي يتوهمونها، وفي نفس الوقت لم نجد لدى الكثير ممن يتحدث عن هذا الاستقلال أي ذكر عن استقلال القضاة عن الجمهور وتأثيرهم عليهم فضلاً عن الانتماء للتيارات والجماعات التي لا تتوافق أبداً مع استقلال القاضي، ولا يمكن للقضاء أن يستقل مطلقاً لأنه جزء من منظومة الدولة والمجتمع، ولكن المقصود هو الاستقلال عما يؤثر به سلباً، ولا يمكن تحقيق هذا الاستقلال ما لم يستقل القاضي عن جميع المؤثرات الفكرية والحزبية والقبلية والمناطقية والطائفية والمذهبية وكل ما يخرم شرط الحياد والتجرد والموضوعية، ومن أجل أن يشعر كل فرد بأن القاضي هو ملاذه الآمن فيجب ألا ينحاز القاضي لأي طرف أو جماعة أو تيار أو طائفة أو مذهب أو شيخ، وإلا فقد أصبح خصماً لا فصلاً، وكما قال المتنبي:

يا أعدل الناس إلا في معاملتي

فيك الخصام وأنت الخصم والحكم

ولا يمكن للسلطة القضائية أن تستقل عن ولي الأمر لأنه مرجع ولاية القضاة وهو القاضي الأصلي والقضاة نوابه، وبالتالي فلا يمكن إسقاط مبدأ الاستقلال المطلق على الحالة الإسلامية، وكان يجب على أصحاب المرجعية الدينية وخصوصاً الحركيين أن يكونوا أول من يتنبه لهذا الجانب لا أن ينزلقوا نحو مبدأ غربي وهم في نفس الوقت ضد التغريب!، وكذلك لا يمكن القبول بالتباكي على استقلال السلطة القضائية والغلو في الحديث عن الفصل بين السلطات وفي نفس الوقت لا يبقى لدى بعض القضاة أي معنى للاستقلال الذي يطالبون به، والواجب ألا يستقل القضاء عن (النظام) الدستوري وإنما الذي يجب هو أن يستقل عن (التنظيم) الحركي والتكتلات الشللية والانتماءات الفكرية والانحيازات القبلية والمناطقية والطائفية والحزبية، ولذا نجد أن بعض الرأي العام له موقف سلبي من القضاء بسبب بعض القضاة، وذلك يعود في جزء كبير منه إلى تصرفات بعض القضاة تجاه المجتمع عموماً وتناقضهم مع بعض مرجعيات الدولة خصوصاً، وكل هذا إما بحسن نية بسبب فكر هش، أو بسوء نية بسبب مواقف مسبقة من شرعية الدولة والتزامها بالشريعة الإسلامية بأصالتها وطهرها وليس بالشكل الذي تربى عليه بعضهم عبر المحاضن الفكرية والحزبية، ولا يمكن للقاضي أن يكون مستقلاً إلا أن يكون حراً من أي ارتباطات فكرية أو حركية، وذلك عبر الممارسة الفعلية وليس بالمزاعم، والقضاة الأحرار هم حماة الحرية والعدالة في المجتمع.

ويمكن ببساطة أن يكون الضابط والمعيار الذي يؤشر على الاستقلالية الحقيقية للقضاء هو في الجواب على السؤال التالي: هل يشعر كل المواطنين والمقيمين وغيرهم بلا استثناء وعلى حدٍ سواء أن القضاء ملاذاً آمناً لهم جميعاً بلا انحياز لطرف ولا تحامل على آخر ولو كانت الدعوى من غير مسلم ضد مسلم أو شيعي ضد سني أو "مبتدع" ضد "سلفي" أو أعجمي ضد عربي أو مقيم ضد مواطن أو امرأة ضد رجل أو ليبرالي ضد إسلامي أو وسطي ضد متطرف أو مستقل ضد حزبي أو إعلامي ضد "محتسب"؟.