حين نستذكر أهمّ ما كتب عن الإسلام ونبيّه وثقافته ورموزه العظماء، والعربية وفنونها وأدبها نثرا وشعرا في العصر الحديث لن تغيب عنا أسماء مفكرين وأدباء كبار، جمعوا إلى سعة الثقافة والاطلاع فصاحة الأسلوب وجزالة التعبير وعمق البحث، وطرقوا أبوابا من الفكر، وشقوا سبلا من الدراسات أبدعوا فيها وأثرَوا المكتبة العربية والإسلامية بما بقي -وسيبقى- مرجعا للدارسين والمثقفين لا يستغني عنه مثقف "متنوّر". اللافت أنهم كانوا جميعا في السياسة يتجهون اتجاها ليبراليا، فهم ما بين منتم إلى حزب الوفد، أو حزب الأحرار الدستوريين، أو غيرهما مما هو مناوئ وعلى الضد من مشروع (الإسلاميين)، أو بحسب التعبير العصري الجديد اليوم (الإسلامويين).
أستحضر مثلاً الأديب الكبير عباس محمود العقاد، كان وفديا ثم اتجه إلى حزب السعديين (المنشق عن حزب الوفد)، وكان له نضاله في مصر حين أراد الملك فؤاد أن يحذف بندين من بنود الدستور: أن الأمة مصدر السلطات، وأن الوزارة مسؤولة أمام البرلمان، إذ عارض هذا القرار معارضة شديدة، وكتب كتابه (الحكم المطلق في القرن العشرين) يُنحي فيه على الحكم (الشمولي)، ويدافع دفاعا مستميتا عن حق الشعب في حكم نفسه، وعن تمثيل من ينوبه في البرلمان، ويتكلم عن الديموقراطية التي خصص لها أيضا كتابا يذكر فيه ماهيتها ومزاياها وعيوبها، مقررا أنها رغم كل تلك العيوب تبقى هي أفضل نظام عرفته البشرية.
هذا المفكر والأديب الكبير قدّم للمكتبة العربية والإسلامية كتبا خالدة على وجه الدهر، أذكر منها: (الله)، (التفكير فريضة إسلامية)، (الديموقراطية في الإسلام)، (حقائق الإسلام وأباطيل خصومه)، (الفلسفة القرآنية)، (المرأة في القرآن)، (الإنسان في القرآن)، (طوالع البعثة المحمدية)، (أثر العرب في الحضارة الأوروبية)، وغيرها؛ إضافة إلى العبقريات عبقرية محمد وعبقرية الصديق وعبقرية عمر، وما كتبه عن السيدة عائشة ومعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص، احتفاءً برموز الإسلام وأبطاله، كل تلك الكتب التي كتبها هذا (الليبرالي) منتميا إلى دينه مفاخرا به، مدافعا عنه بين ضجيج الأفكار المصطرعة آنذاك.
دونك مثلا طه حسين، الأديب الكبير الفذ الذي يسميه بعض الإسلاميين (عميل الأدب العربي) -مع الأسف- وتم تكفيرُه بسبب آراء رجع عن بعضها فيما بعد وله فيها وجهة نظر. كان من حزب الأحرار الدستوريين، وكتب كتبا عديدة عن الإسلام وحضارته، منها كتابه العظيم (على هامش السيرة) الذي أعلن في مقدّمته أنه كتبه للشباب بطريقة روائية ليكون أقرب إليهم أسلوبا فيقرؤوا سيرة نبيهم -صلى الله عليه وسلم-، وله كتاب (مرآة الإسلام) الذي استعرض فيه تاريخ الإسلام استعراضا لا يخلو من تحليلاته ونظراته، ويصف فيه ويشرح فيه مبادئه العظيمة، ويتكلم عن القرآن وإعجازه كلاما يقطر شهدا وجمالا وعمقا، ولا يفوتني كتابه الشهير (الوعد الحق) وهو رواية ألّفها عن بعض الصحابة الكرام ممن كانوا مستضعفين فمكّنهم الله لمّا قاموا بشرعه واهتدوا بهدي نبيّه، ثم كتبَه الشهيرة الطنّانة عن الخلفاء الراشدين: كتابه (الشيخان) عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وكتابه (الفتنة الكبرى) عن عثمان رضي الله عنه، وعن عليّ بن أبي طالب وبنِيه سلام الله عليهم.
ومحمد حسين هيكل السياسي الأديب الكبير –رئيس حزب الأحرار الدستوريين- الذي ألّف كتابه المعروف (حياة محمّد) في سيرة النبي الكريم وصفاته النفسية، قدّم له الشيخ المراغي، وكتابه الشهير (في منزل الوحي) الذي كتب فيه عن تجربته في زيارته للحجاز، وتناول فيه شيئا من آثار النبي وصحابته في مكة والمدينة، بأسلوب عاطفي بليغ، وله كتاب (الإمبراطورية الإسلامية والأماكن المقدّسة)، كما كتب عن الصحابة الكرام: أبي بكر، وعمر، وعثمان، تأريخا لتلك الحقبة، ورصدا وتحليلا لما كان فيها من أحداث، وله كتاب بعنوان (الحكومة الإسلامية).
أما القانوني المتشرّع الكبير عبد الرزاق السنهوري باشا فهو أول من قنن الشريعة على طريقة القوانين العصرية، وهو كاتب القوانين المدنية في عدد من الدول العربية، وهو رجل ديموقراطي حتى النخاع، وبسبب مطالبته بالديموقراطية ووقفته في وجه جمال عبد الناصر وحثّه العسكر إلى الرجوع إلى ثكناتهم تم الاعتداء عليه، فاعتزل الحياة العامة حتى توفي. كتب كتابا معروفا بعنوان (فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية)، قرر فيه أن الخلافة أمر من فروع الفقه لا من أصول الدين، وأهدى كتابه هذا إلى "كل (شرقيّ) يستطيع أن يوفق بين انتماءاته الدينية والقومية والعرقية وبين انتمائه إلى (الشرق) وطنه الكبير، وانتمائه إلى الوطن العالمي الأكبر (الإنسانية)".
هكذا يفهم عبد الرزاق السنهوري باشا -والذي كان سعديًا- معنى (الخلافة)، يفهمها اتحادا وتعاونا وعملا مشتركا بين دول الشرق، ويدعو إلى التوفيق بين الدين والعرق والقومية والانتماء إلى (الشرق) من جهة، وبين ذلك كله والانتماء إلى (الإنسانية) من جهة؛ ويقدّم فهما جديدا؛ على ضوء الطريقة العصرية في كتابة القوانين، في رد على الإسلاميين الذين كانوا يرون الخلافة دولة كبيرة مترامية الأطراف يحكمها "أمير المؤمنين" الذي هو "ظل الله في الأرض"!
أولئك ليبراليو الأمس؛ وتلك جهودهم الفكرية (التنويرية) حقا، وانتماؤهم العميق إلى الإسلام والعربية وأدبها وفنونها؛ اتفقنا مع نتائجهم أو اختلفنا، لكن حسبنا بأن المكتبة الإسلامية المعاصرة التي بلغت في العمق والبحث والتنقيب ما يثري العقل والفكر -على غير طريقة الكتب الأكثر مبيعًا اليوم، من هاتيك المؤلفات الوعظيّة التي تكتفي بالكلام المنمّق، والقص واللصق؛ مما يحسنه كل أحد- أقول: حسبُنا بأن المكتبة الإسلامية الفكرية المعاصرة اليوم على وفق ما بيّنت أعلاه بإيجاز إنما كتبها (ليبراليون) أو (ديموقراطيون).
فأخبرني -أحسن الله إليك- ما أخبار ليبراليي اليوم الذين تعرفهم؟.