ورد على صدر الصفحة الأولى من صحيفة المدينة (الجمعة، 29 أكتوبر، 2010) خبر جميل يقول: (إعلان الدوحة: التزام عربي بالديموقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير). أشار الخبر إلى البيان الذي أصدره وزراء الثقافة العرب في ختام أعمال مؤتمرهم بالدوحة الذي طالبوا فيه بالتمسك بحرية الفكر والتعبير والارتقاء بالإبداع الثقافي في مختلف المجالات والالتزام بالديموقراطية واحترام حقوق الإنسان، والتأسيس لثقافة التسامح واحترام الاختلاف وقبول الآخر وإيلاء عناية خاصة بثقافة الأطفال والشباب، وتأكيد دور المرأة في الحياة الثقافية، وتعزيز مقوّمات المجتمع المدني ضمن الخطة المرسومة لقمة الثقافة العربية المرتقبة.

بداية لا بد من الإشادة بالشجاعة والشفافية التي جعلت وزراء الثقافة العرب يعدوننا رسمياً ويعاهدوننا علنياً بالتزامهم بحرية الكلمة والتعبير والديموقراطية وحقوق الإنسان. فتلك المواضيع الحساسة كانت إلى وقت قريب تشكل خطاً أحمر يحظر تداوله علناً، أو يسكت عنه على أقل تقدير. أما وقد وعد الوزراء وتعهدوا، فوعد الحر دين عليه، كما يقول المثل العربي، ولنا من الآن فصاعدا أن نذكرهم به، وأن نستحضر معهم قول الله تعالى: "وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً" (الإسراء، 34)

بالتأكيد تأتي هذه الوعود والعهود من قبل وزراء الثقافة العرب اتساقاً مع توجه المجتمعات العربية نحو الرقي بمؤسساتها الثقافية والإعلامية، كما أنها تسير باتجاه سيرورة المجتمعات الحديثة حيث الالتزام بمواثيق حقوق الإنسان وحرية التعبير. لذلك فإن هذه الالتزامات المعلن عنها تصبح ضرورة عصرية لأن الإخفاق فيها سيقود حتماً إلى انتكاسة في التطور والتقدم. ومن جانب آخر فإن هذه الالتزامات أصبحت واقعاً لا جدال حوله بسبب عوامل خارجة حتى عن إرادة المؤسسات الرسمية. فالإعلام الجديد (الإلكتروني والتفاعلي) جعل من الصعب على وزارات الإعلام والثقافة الوقوف ضد حرية التعبير بشكل مطلق، وأصبحت المجتمعات مفتوحة، وتدفق المعلومات عبر الشبكة الإلكترونية والنشر الرقمي لا يدع مجالاً للحجب والمنع حتى مع وجود هيئات للمنع والحجب. إن التنافس في حرية الصحافة والتعبير أمر لا تقف أمامه أعتى أنظمة المنع والحجب. ولعل الوزراء العرب قد أدركوا ببالغ حكمتهم هذا الواقع الجديد، فجاء البيان تبياناً واعترافاً بما يفرضه الواقع. ولكن مع كل ذلك، يظل البيان حدثاً شجاعاً وخطوة إلى الأمام لا تنكر، بل وتستحق حتماً الإشادة بها.

غير أن هذا الواقع الجديد، ومن ضمنه هذا التعهد الرسمي، يفرض أيضاً التزامات على وزارات الثقافة والإعلام كي تترجم جوهر هذا البيان على أرض الواقع عبر تطوير وتحديث الأنظمة وتطوير القوانين المتعلقة بالنشر والمطبوعات لكي تعكس بحق هذه الالتزامات، ولكي لا يظل هذا الإعلان المهم مجرد أقوال وشعارات نرفعها مع انتهاء المؤتمرات ثم ننساها عند الممارسة الحياتية. ومن المتفق عليه في كل الأنظمة والدساتير أن ممارسة حرية التعبير لا تقتضي سن القوانين التي تنص عليها فحسب، بل وتستلزم أيضاً سن وتفعيل الأنظمة الواضحة التي تحمي كل من يتعرض لعقوبات جراء ممارسة هذا الحق الطبيعي في التعبير، كما تحتاج أيضاً إلى تفعيل لمواثيق شرف المهنة التي مازالت حبيسة الأدراج. أمام كل هذه الاعتبارات فإنه من المحزن حقاً أن نرى أن الواقع العربي يشهد عشرات الممارسات التي تتعارض وهذا العهد وهذا التوجه، ولا تتسق مع عهود حقوق الإنسان وحرية التعبير التي قطعها وزراء الثقافة العرب على أنفسهم في بيان الدوحة. ولعل تصحيح هذا الوضع هو المحك الأول لمصداقية هذا البيان عالي الأهمية.

إن تقارير الحريات الصحفية لا تزال تشي بأن جل الدول العربية لا تلتزم بمبدأ حرية التعبير ولا تحمي حقوق الإنسان خاصة فيما يتعلق بالنشر الإلكتروني بل وتضع الدول العربية في ذيل القائمة في تصنيف الحريات. فمعظم قوانين الدول العربية لا تعترف أصلاً بحركة التدوين. كما أننا نشهد ممارسات تحارب التدوين وتلاحق المدونين ولا تقدم لهم أي نوع من الحماية القانونية ولا تتعامل معهم على أنهم يعملون في الإعلام، مثل الصحفيين.

إننا ونحن نستعرض هذا البيان القوي والشجاع لا نستطيع في الوقت نفسه تفسير توجه وزارة الثقافة والإعلام السعودية لمراقبة المنتديات والمدونات بل وإصدار نظام لمراقبة النشر الإلكتروني وطلب إصدار تراخيص لها. إن الإعلام الجديد والنشر الإلكتروني بات يتعامل مع حرية التعبير باعتباره أمراً مشروعاً ليس للوزارة الحق أو حتى القدرة على منعه، فالمدونون خاصة جيل الشباب هم أكثر وعياً بالواقع وأكثر جرأة ومقدرة على طرح أفكارهم دون خوف من رقيب. ومن المفترض أن هذا ما جعل المتحدث الرسمي لوزارة الثقافة والإعلام يتراجع عن تصريحه ويستثني المدونين والمدونات من نظام النشر الإلكتروني الذي تعتزم الوزارة إصداره وإضافته لنظام المطبوعات والنشر المعمول به في المملكة.

من المهم أن يكون تعهد وزراء الثقافة العرب مستشعراً للأزمات التي يمر بها مواطنو الدول العربية الذين اتجهوا للنشر الإلكتروني عن طريق المدونات، وأن توفر لهم الحماية القانونية من قبل وزارات الثقافة بحيث لا يعتقل من يعبر عن رأيه ولا يحاسب إلا من يقوم بعمل يتناقض وميثاق شرف المهنة الصحفية من سب وترويج للعنف والكراهية. إذ إنه من الضروري بعد أن قام وزراء الثقافة العربية بتقديم هذه التعهدات أن تتسق الأفعال والقوانين مع ما تعهدوا به بخصوص حرية التعبير والديموقراطية وحقوق الإنسان.

إننا نتطلع فعلاً لأن نحتفي بهذا البيان وأن نفتخر ونفاخر به. إلا أننا حتماً لا نود أن ينتهي هذا البيان كما تنتهي أغنية فنانتنا الكبيرة فيروز ... "وأخيراً تلفن عياش ... مثل ما كأنه ما تلفن".