في ظروف تاريخية معاصرة شهد النسيج الاجتماعي الإنساني تطورات كبيرة في الفكر والثقافة، من أبرزها رؤية حداثية جديدة ما زالت محل جدل ونقاش بين أنصار الأصالة والحداثة، وكانت الكلمة سلاح كل فريق بين الرفض والقبول اللذين شغلا الأجيال عن الإبداع، ومواكبة العصر في جدل عقيم، رغم أن الحوار والكلمة الحرة في حد ذاتها يمكن أن يحملا رؤية وفلسفة لنظرة الإنسان للحياة والكون، معترك الحوار بين الفريقين كان يدور حول الفصل بين الدين والسياسة، بل عزل الدين عن الحياة، والحرية وضوابطها والمرأة ودورها المجتمعي وقضايا أخرى.

قلق الجيل الجديد حين يرغب في التغيير يبدو حائراً ومتردداً، يظن حسب ممارسات دينية أنه ضد التجديد والحداثة والتغيير.

كما أن واقع التدين المعاصر وصوره الحديثة أصبحا مرتبطين بالعنف والخوف من الحياة المعاصرة وتجلياتها التقنية التي أحدثت صدمة عند بعض الشباب، فتحول من التدين إلى الانعتاق منه بسبب تخلف منظومة تعليمية هزيلة ومناهج قديمة لم تقدم قيم الدين في صورته الجميلة التي تعتمد على الإقناع والتجديد المستمر.

لابد للجمع بين قيم التدين وفلسفة الحداثة المعاصرة من إصلاح المنظومة التعليمية، لتجمع بين قيم الدين والحداثة، فواقع التعليم الحالي ينتج لنا بواقعه الهزيل شباباً أكثر ميلاً إلى العنف والتطرف، ويبرز دور الإعلام لصنع أجيال راشدة وطموحة تتأقلم مع واقع الحضارة العالمية وتحافظ على أصالتهـا وقيمها الدينية.

لقد أصبحت العلاقة بين الأجيال الجديدة والدين علاقة رفض وتحدّ لقيمه نظراً للصورة الإعلامية المشوهة للدين، التي تقدمهـا بعض القنوات الإعلامية وبعض المؤسسات الدينية ومراكز الدعوة، حيث كرَّست مفهوم عزلته في زاوية من زوايا المسجد، بل وجعلته منفصلاً عن المجتمع والحياة المعاصرة وقيم الحداثة التي تجمع بين الأصالة والتجديد.

وصار الشباب يتعلم فن الإرهاب في محاضن تمثل التطرف باسم الدين في أبشع صوره، والمتأمل في السيرة النبوية يجد أنها تجمع بين الأصالة المعاصرة، ولا ترفض الحداثة رفضاً مطلقاً كما صوره بعض المتدينين.

حين قدم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المدينة جمع فئات المجتمع وحرص على تقوية أواصر الأخوة بين مجتمعين مكي ومدني دون تفريق أو تقطيع لأواصر النسب والإنسانية بمسميات طائفية أو عرقية أو حزبية، بل وحَّد الجميع تحت راية مدنية جمع بها من قبل بين يهود المدينة والمسلمين، فكانت المدينة مثالاً للتعايش الحضاري في بيئة واحدة.

وفي تأبير النخل قال: (أنتم أعلم بأمر دنياكم)، وفي الأحزاب استخدم وسيلة دفاع حديثة لم تكن معروفة في ثقافة الجندية العربية وهي حفر الخندق.

وشواهد السيرة النبوية التي تحث على الانفتاح على الآخر والاستفادة من أمور الحياة المعاصرة كثيرة، تدل بشكل جليٍّ عمليّ على أن الإسلام دين انفتاح وإصلاح يجمع بين الأصالة والحداثة والإفادة من وسائل الحياة العصرية، في ثقافة حديثة تفتح آفاق الحرية للفرد والمجتمع لممارسة حياته في إطار شرعي يتسم بالتسامح والتصالح وإعمال العقل، وفتح أبواب الحرية التي تحترم العقل والعلم وبناء أجيال حديثة واعدة في ظل تيارات العولمة المتجددة من خلال نظرة وسطية معتدلة تسمو بالجيل المعاصر نحو مشاركة مدنية وعصرية فاعلة وحديثة، تجمع بين المادة والروح والتدين والحداثة.