كل ما يحتاجه الأمر لكي نصدم إنسانا أو نحطم أحلامه أو حتى نحوله من صديق إلى عدو، هو بضع كلمات تخرج من أفواه جهلة، والجهل ليس ببعيد عن الحماقة من حيث الاستسلام للانفعالات لدرجة الصب على النار زيتا والغرق في الخصام والمشاحنات؛ فهذا يشتم وذاك يرد، وهذا يقتل وذاك ينتقم، وتبدأ الأرض من تحتنا تختفي للتحول إلى رمال متحركة من الأحقاد والكراهية تبتلع الجميع دون أن تفرق بين صاحب حق ومعتدٍ!
لا أدري عنكم ولكن صعب أن أكره من كنت يوما أدعو من أجله، صعب أن أشتم من كنت أذرف الدمع يوميا حرقة وألما لألمه! أصبحت أمتنا العربية اليوم في عين العاصفة تتقاذفها رياح الشمال والجنوب والشرق والغرب! لا ندري من منا سيكون التالي في اشتعاله وتدهوره! لا أتدخل في السياسة ولا أدعي المعرفة فيها، ولست كغيري ممن تحولوا بين ليلة وضحاها إلى محللين سياسيين هجموا علينا كالجراد يأكلون الأخضر واليابس من إنسانيتنا من إخوتنا يطربهم صراخنا وتسكرهم دماؤنا، تمركزوا في كل وسيلة إعلام حديثة كانت أم قديمة يمطرون... كلا المطر خير، يقذفون بعضهم البعض بأقذر ما لديهم من تهم وتبلٍّ! والغريب حقا أن غالبيتهم لا يعرف أصلا الفرق بين الألف من كوز الذرة في أبسط أبجديات السياسة! ولكن الذي أعرفه لا بل أدركه تماما وأؤمن به بكل جوارحي، أننا كشعوب عربية أتينا من رحم تربة واحدة ومن صفحات تاريخ واحد، فكيف بين ليلة وضحاها حوّلنا إلى شعوب وأعراق ومذاهب لنتناحر والعدو يتفرج دون أن يُسفك له نقطة دم واحدة؟!
حققنا أعلى درجات "الأستذة" في كسب الأعداء! ففي أقل من عقد من الزمن نجحنا في تمزيق الصف الواحد، ولم نعد نجد ما نرتق به الفتق بعد اتساعه ليفوق مساحة السهول والوديان! أين ذهبت "بلاد العرب أوطاني"، وأين ذهب قول الشاعر:
"وَإِنَّ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَ بَنِي أَبِي/ وبَيْنَ بَنِي عَمِّي لَمُخْتَلِفٌ جِدَّا/ أَرَاهُمْ إِلَى نَصْرِي بِطَاءً وإنْ هُمُ/ دَعَوْنِي إِلَى نَصْرٍ أَتَيْتُهُمُ شَدَّا/ فَإِنْ أَكَلُوا لَحْمِي وَفَرْتُ لُحُومَهُمْ/ وَإِنْ هَدَمُوا مَجْدِي بَنَيْتُ لَهُمْ مَجْدا/ وَإِنْ ضَيَّعُوا غَيْبَي حَفِظْتُ غُيُوبَهُمْ/ وإنْ هُمْ هَوُوا غَيِّي هَوِيتُ لَهُمْ رَشْدًا/ وَلاَ أَحْمِلُ الْحِقْدَ الْقَدِيمَ عَلَيْهِمُ/ وَلَيْسَ رَئِيسُ الْقَوْمِ مَنْ يَحْمِلُ الحِقْدَا/ لهُمْ جُلُّ مَالِي إِنْ تَتَابَعَ لِي غِنًى/ وَإِنْ قَلَّ مَالِي لَمْ أُكَلِّفْهُمُ رِفْدَا"!
لا أدري كيف تفشت سموم ضعاف النفوس بيننا وأصابت العقل الجمعي من أكبر مثقفيه إلى أبسط أميٍّ فيه! أضعنا التعقل والتفكر والتدبر، بل أضعنا الحكمة والصبر واندفعنا خلف انفعالاتنا خاصة السلبية منها! والآن نرى أمتنا تنحدر وتكاد تتلاشى أمام أعيننا، نخسرها روحا بعد روح، جسدا بعد جسد، حجرا بعد حجر! والكلمة؛ وليدة أعظم وأغنى أبجدية، والتي كانت كنز المعرفة، رفيقة الفكر وطريق التواصل، أصبحت خنجرا نغرسه في لحومنا، معتقدين أننا نغرسها في جسد عدو، وأي عدو؟ من كان بالأمس أخا وحبيبا! اخترعنا قاموسا للشتائم لم يسبقنا إليه أحد من العالمين، وأخذنا نحصد منه ونسينا القمح ونسينا التين والزيتون، وبدلا من أكاليل الغار زينا الرؤوس بالشوك وبالنار!
كم مرة سمعنا وقرأنا عبارة، "الفتنة أشد من القتل"؟ ولكن على ما يبدو أننا لم نستوعبها! نرددها كما نردد غيرها من الأقوال والأمثال، وبدلا من أن يكون قولا على فعل نتصرف بها كقول بلا فعل! نشجب ونستهجن وندين وبنفس النَفَس نستدير لنشتم ونشمت ونستهزئ وندين أيضا! ولسان حالنا يقول: "انظروا هل ترون نظافة أيدينا؟"، ولكن ماذا عن ألسنتنا وقلوبنا؟! أعمى من لا يرى الدماء على يديه ويراها فقط على يدي أخيه! مجرم من يصرخ لقتل أخيه ولا يرى جرما في قتل ابن عمه!
مهلا أمتي فلقد غدت الجراح عميقة، مهلا أمتي فإن سقط أحدنا سقط البقية! فلا يوجد أقوى من رباط الدم ولا يوجد أعمق من رباط التاريخ. نعم هنالك من ينادي بأن نتحد، إنهم كل هذه النبتات الشيطانية التي اقتحمت مؤخرا السلام والأمان الذي كنا يوما نعيشه، إنها الأعشاب الطفيلية التي تتغذى على دمائنا وتنمو كلما نمت أحقاد وكراهية بعضنا لبعض! إنها تلك الجماعات والأحزاب الإرهابية التي تريدنا أن نكون متحدين تحت راياتها الجهنمية! عن أي اتحاد يتحدثون؟! ليس سوى اتحاد جند إبليس مع شياطين الإنس ليتفشى التوحش ويسود الإجرام! إننا إن استمررنا فيما نحن عليه، لا نمهد لهم الطريق لتحقيق أهدافهم فقط، بل نحن نسير في طريق دمارنا وهو آت لا محالة إن بقينا نعاند ونكابر ونسينا رباط الإخوة فينا!
تحركي يا أمتي وانتبهي للخطر الذي ينهش جسدك ويفسد روحك... تحركي يا أمتي واخرجي من مستنقع سباتك! متى يا أمتي تعيدين مجدك؟ متى يا أمتي تنفضين غبار النرجسية وتعودين إلى نقاء أصلك؟ استيقظي يا غالية فلقد تعبنا من انتظارك!