لم تكد تمضي أيام قلائل على القرار الشجاع الذي اتخذته المملكة العربية السعودية، بتجميد مساعداتها العسكرية للجيش اللبناني وقوى الأمن، بأسلحة تبلغ قيمتها 4 مليارات دولار، حتى أتبعته بخطوات أخرى بالغة الأهمية، تمثلت في تحذير رعاياها من السفر إلى لبنان، ومطالبة الموجودين هناك بالعودة فورا، إضافة إلى قرار آخر بوضع 3 لبنانيين آخرين وشركاتهم على القائمة المحظورة الخاصة بتمويل "حزب الله" وتسليح ميليشياته، لتكون بذلك قد حدَّثت القائمة التي أصدرتها في نوفمبر الماضي، ليبلغ عدد الشركات المحظورة 14 شركة ومؤسسة.
وتبدو أهمية قرار استدعاء الرعايا من لبنان في مواصلة توجيه الرسائل السعودية الحازمة، بأن زمن الحياد السالب قد انتهى، وأن المواقف الغائمة ما عادت تسمن ولا تغني من جوع، وهي رسالة عميقة الدلائل والمعاني، اكتسبت بعدا إضافيا بانضمام كل دول الخليج إلى موقف الشقيقة الكبرى، ومنعها رعاياها من السفر إلى لبنان، ومطالبة حكومة سلام بالقيام بواجباتها الدستورية، واستعادة قرارها من فك الحزب المذهبي الذي صادره واستأثر به بقوة السلاح غير الشرعي الذي يمتلكه.
وتوضح مسارعة دول الخليج العربي إلى الاصطفاف لجانب الموقف السعودي، عمقَ الرباط الذي يجمع هذه الدول، ووحدة مصيرها، وأنها كالرماح، تأبى إذا اجتمعن تكسرا وإذا افترقن تكسرت آحادا.
كما أن موقفها يعبر -عمليا- عن الاتحاد الذي يجمعها، بصورة فعلية أكثر منه قولية.
أما القرار الآخر فهو يعني ببساطة تشديد الخناق أكثر على الحزب، وتكبيل أذرعه المالية، وقطع شرايين تمويله في دول الخليج، وكبت أنفاسه ومنع حركته تماما، بعد أن كان يعتمد في السابق على العمل في دول المنطقة، تصديرا واستيرادا، ويجمع الأموال ويحقق الأرباح التي ما يلبث أن يعود ويستخدمها في تجييش المواقف ضد دول المنطقة، أو يقتني بها أسلحة يوجهها إلى صدور أبناء شعبه، وإراقة دماء الأبرياء في سورية واليمن والعراق.
المتتبع للواقع السياسي، يدرك أن القرارات المتتالية التي اتخذتها القيادة السعودية، وأيدتها دول الخليج العربي، هي تأكيد واضح للحكومة اللبنانية، أن الموقف الذي اتخذته ردا على تجميد المساعدات العسكرية لم يكن كافيا، وأن البيان الذي أصدرته عقب اجتماعها السابق لم يشف الصدور، ولم يقنع أحدا، فهو لم يمتلك الشجاعة الكافية لإدانة الحزب بصورة صريحة، وإلزامه بالتوقف عند حده، ولم يصحِّح الخطأ الكبير الذي وقع فيه وزير الخارجية صاحب الأولوية الحزبية، واختار لغة سالبة، حاولت إمساك العصا من الوسط، والوقوف في منتصف الطريق، وهو ما عبر عنه سفير خادم الحرمين الشريفين علي عواض عسيري بشفافية مطلقة، حينما دعا بيروت إلى معالجة أخطائها بشجاعة، واتخاذ خطوات عملية أكثر، لامتصاص الغضب السعودي الخليجي، عبر استعادة زمام المبادرة، والقيام بواجباتها الدستورية، لأن سياسة الطبطبة باتت غير مقبولة، وأسلوب مداراة الجروح دون مداواتها لن يؤدي إلى شفائها، وعليها أن تختار بشفافية، بين العودة إلى الحضن العربي، وكبح جماح المنفلتين والعملاء، وإسكات الأبواق المأجورة، واستعادة القدرة على صنع القرار، أو أن تكون دمية في أيدي أعداء الأمة، يستغلونها لاستلاب الدولة، وإدراجها ضمن المحور الإيراني.
المملكة صبرت كثيرا على تجاوزات حزب إيران في لبنان، وغضت الطرف مرات عدة عن إساءاته في حقها، أملا في عودته إلى رشده، وتغليبه مصلحة بلاده على الأجندات الخارجية، وإفاقته من غيبوبة المخططات الطائفية البالية، التي تجاوزها العالم المتحضر، وباتت جزءا من ماض أسود، وتحملت الإخفاق الرسمي اللبناني في تصحيح تلك المواقف المشينة، وإلجام الأصوات الناعقة بالشر، إلا أنها لم تعد تحتمل مزيدا، بعد أن فسَّر الآخرون صمتها على أنه قبول بسياسة الأمر الواقع، دون أن يدركوا أنها في مكان القوة، وأن بيدها القرار، الذي تدعمه شقيقاتها، وتقف إلى جواره، وأن قيادتها وشعبها لن يسكتا على التطاول، وإن صَفَحَت المملكة مرة عن تجاوز، أو غضت الطرف حينا عن إساءة، فإن ذلك لا يعني التسليم والاستسلام.
ختاما، يبقى التأكيد على الحكومة اللبنانية، أن الطريق واضح أمامها، وأن هناك خياران، ليس بينهما أمور مشتبهات، فإن أرادت إنقاذ موسمها السياحي الذي يواجه شبح الانهيار التام، وإنعاش اقتصادها الذي يتهدده مزيد من التراجع، وقبل ذلك إنقاذ الدولة الوطنية اللبنانية من الاختطاف الذي حدث لصالح ميليشيا الحزب المتطرف؛ فليس أمامها سوى الاضطلاع بمهامها، واستعادة هيبتها، والالتزام بمقررات الإجماع العربي، وإسكات الأصوات النشاز، والإعلان -بصورة لا لبس فيها- عن وقوفها إلى جانب من مدوا أياديهم لها، وقدموا لها الدعم، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، ولم ينتظروا منها تبعية أو انقيادا، وما أرادوا لها إلا سبيل الرشاد. أو أن تقبل بالخيار الثاني، وترضى بالتحول إلى حصان طروادة، يمتطيه أصحاب المشاريع الوهمية، والأجندة الطائفية، وساعتها لات حين مندم.