لقي هذا المفهوم الشمولي الكبير حضوراً في تفاصيل حياة أمة المسلمين من زمن النبي عليه السلام إلى اليوم، وعناية فائقة من العلماء تأصيلاً وتنظيراً وتأليفاً، وكان يُختصر في مبدأ إجرائي تحت مسمى "الحسبة" التي كانت تدرج تحت أبواب "الأحكام السلطانية" وهي من ضمن أعمال الولايات، ولم تكن مقتصرة على معنى معين، بل كانت تندرج تحت مفهوم عامل وشامل في كل ما يصلح حياة الناس في الدين والدنيا، لأن مفهوم "الأمر بالمعروف" يتعلق بكل "معروف"، والنهي عن المنكر يتعلق بكل "منكر"، خاصة في الأمور التي تنظم حياة الناس، وتمنع تعدي بعضهم على بعض، والتظالم الذي يقع في شؤون حياتهم.
المتتبع للمؤلفات التي كتبها علماء المسلمين ابتداء، يجد السعة والشمول في هذا المفهوم، فهي تعتبر رقابة إدارية تقوم بها الدولة على كل مجالات الحياة المتعلقة بالجوانب المعنوية والأخلاقية، أو الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والإجرائية التي تضمن تحقيق مقاصد الشريعة العامة من إقامة العدل ودفع الظلم وإصلاح حياة الناس واستقرارهم وإسعادهم وإبعاد الشرور والأضرار عنهم.
وهذا المعنى هو الحاضر في كل المؤلفات التي تكلمت عن الحسبة، سواء في جانبها التأصيلي النظري المعتني برسم معالم قواعد الحسبة الشرعية وصفات المحتسب واختصاصاته وحدود عمله وممارساته، أو في جانبها التطبيقي العملي التي اعتنت بالحديث عن أنواع الاحتسابات والمهن والصنائع التي يمارس المحتسب عمله في إطارها، سواء تلك المؤلفات التي جعلت الحسبة تحت الأحكام السلطانية، كالماوردي الشافعي، أو أبو يعلى الحنبلي في كتابيهما "الأحكام السلطانية"، أو الإمام الغزالي في إفراده فصلاً عن الحسبة في كتاب الإحياء، وابن خلدون في مقدمته، ومن هؤلاء عبدالحي الكتاني في كتاب "التراتيب الإدارية"، ذلك الكتاب الضخم الذي تلمس فيه روح الأولين في الأصالة والمتانة والكد المنهجي والاستقراء العلمي، أو من أفرد الحسبة في كتابة مستقلة مثل كتاب "نهاية الرتبة في طلب الحسبة" لعبدالرحمن بن نصر الشيرزي المتوفى 589، أو كتاب "معالم القربة في أحكام الحسبة" لمحمد بن محمد القرشي المتوفى سنة 729، أو كتاب "الحسبة" لشيخ الإسلام أبي العباس أحمد بن تيمية ت 729 أو "آداب الحسبة" لمحمد بن أحمد السقطي المالقي الأندلسي، أو كتاب "الحسبة" لجمال الدين يوسف بن عبدالهادي المتوفى 909، وغيرها من المؤلفات التي نظرت إلى مفهوم "الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" بنظرة أوسع من تصوراتنا الحاضرة واختزاليتنا للمفهوم الذي أصبح يتعلق بجانب "أخلاقي"، ويمكن أن نعرض لمثالين من كلام المؤلفين يدلان على سعة المفهوم، حيث يقول الشيرزي المتوفى سنة 589 في كتاب "نهاية الرتبة في طلب الحسبة": "ينبغي أن تكون السوق في الارتفاع والاتساع على ما وضعته الروم قديماً، ويكون من جانب السوق أفريزان يمشي عليهما الناس في زمن الشتاء إذا لم يكن السوق مبلطاً، ولا يجوز لأحد من السوق إخراج مصطبة دكانه عن سمت أركان السقائف إلى الممر الأصلي لأنه عدوان على المارة يجب على المحتسب إزالته والمنع من فعله لما في ذلك لحوق الضرر بالناس..". والملفت في هذا النص أمران: الأول أن المؤلف يعتمد نمطاً معيارياً أجنبياً في ارتفاع السوق واعتمد في ذلك على مقاييس الروم القديمة، والثاني: أن عمل المحتسب أشمل من القضايا الأخلاقية والدينية، بل هو يتعلق بشأن دنيوي محض في صفات الأرصفة والارتفاعات والمقاييس الهندسية، وهو أشبه اليوم بعمل وزارة الشؤون البلدية التي تعتني بمواصفات البناء، فكان الوعي لمفهوم الاحتساب يدخل فيه كل ما من شأنه خدمة الناس في أمور معاشهم. ثم قال: "وتجعل لأهل كل صنعة منهم سوقاً يختص به وتعرف صناعتهم فيه، فإن ذلك لقاصدهم أرفق، ولصناعتهم أنفق، ومن كانت صناعته تحتاج إلى وقود نار كالخباز والطباخ والحداد فالمستحب أن تبعد حوانيتهم عن العطارين والبزازين لعدم المجانسة بينهم وحصول الأضرار"، فهذا النص يتجلى فيه شمول عمل المحتسب، وينتظم أعمال قطاعات كثيرة في يومنا هذا، كوزارة الصناعة والعمل والتموين وحماية البيئة وغيرها، فكلها داخلة في مفهوم الاحتساب الشرعي، غير أن اللافت للنظر في هذا النص هو في إعمال الشق "المهمل" الآن في عمل الحسبة وهو "الأمر بالمعروف" الذي يتضمن النظر في مصالح العباد، وما ينفع تجارتهم ويعزز قيمتها ويحفظ جودتها ويكون في صف العامل أكثر من كونه في إعمال الإنكار عليه ومعاقبته، وهو معنى عظيم في كيفية كان السلف يفهمون هذا المعنى الشرعي ويطبقونه.
وفي النص القادم للمؤلف معنى كبير في جانبين مهمين في عمل المحتسب، الأول: في الجانب الذوقي الذي يعتني بالجمال والوقوف أمام ما يعكره، والثاني: في الرحمة والرأفة بالحيوان، إذ يتعدى مفهوم الحسبة من العناية بالإنسان في كل ما يكدر عيشه إلى رعاية الحيوان والرفق به، حيث قال: "وينبغي أن يمنع أحمال الحطب، وأعدال التبن وروايا الماء، وشرائج السرجين (القفص الذي يوضع فيه الروث) والرماد لما فيه من الإضرار بلباس الناس، ويأمر جلابي الحطب والتبن ونحوهم إذا وقفوا بها في العراض أن يضعوا الأحمال عن ظهور الدواب لأنها إذا وقفت والأحمال عليها أضرتها، وكان في ذلك تعذيب لها، وقد نهى النبي عليه الصلاة والسلام "في تعذيب الحيوان في غير مأكله" ويأمر أهل الأسواق بكنسها، وتنظيفها من الأوساخ والطين المجتمع، وغير ذلك مما يضر بالناس لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا ضرر ولا ضرار".
ومثل هذا ذكره صاحب كتاب "معالم القربة في أحكام الحسبة" في فصل الحسبة على الفرانين والخبازين: "وينبغي أن يأمرهم المحتسب برفع سقائف أفرانهم، ويجعل في سقوفها منافس واسعة للدخان، ويأمرهم بكنس بيت النار في كل تعميرة، وغسل المعاجن وتنظفيها، ولا يعجن العجان بقدميه ولا بركبتيه ولا بمرفقيه! لأن في ذلك مهانة للطعام، وربما قطر في العجين شيء من عرق إبطيه أو بدنه، ولا يعجن إلا وعليه ملعبة ضيقة الكمين، ولا يكون ملثماً.. ويحلق شعر ذراعيه...".
إن هذا المفهوم المتسع للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجعلنا أمام خيارين، فإما أن نعتبر بأن كل القطاعات التي تقوم بها الجهات الرقابية والحكومية المعتنية بمصالح الناس داخلة في ضمن مفهوم الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا يكون معنى لحصرها في بعض ما يتضمنها، أو نحصر مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ممارسات الهيئات كقطاع حكومي، وحينئذ نكون قد اختزلنا المفهوم الشرعي الكبير والمتسع في بعض جوانبه المتعلقة بــ"قضايا الأخلاق والآداب العامة".