ثمة أخبار تأخذك من ردفة إلى أخرى، تشل عقلك الباطن، تتشكل على هيئة أشباح وآلام لا يمكنك الخلاص منها، تعزلك في زاوية، ويدفعك الفضول والحزن وضجرك الخاص، لكي تتعرف على الشخصيات والأبطال أكثر من اللازم، تحاول أن تحل شفرة اللغز، أن تضع الأسماء الصحيحة وتتصور أنه بإمكانك أن تسدي معروفا لها، كأن توشوش بأذنها قبل حدوث الفاجعة، أن تساعدها في تخطي السور، أن تهرب من مصيرها المتأرجح، وهذا هو ما أحسست به إبان نحر الطفل "عبدالله" ذي الأعوام العشرة من قبل والده، في محافظة أحد المسارحة جنوب جازان، القصص المفجعة كثيرة، تترك في أحساسينا بعض الكذب والمدارة، وتشغلك وأنت تحاول أن تقبض على أفضل الحلول، رغم أنه لا يوجد ما يمكنك أن تقدمه أكثر من أن تسرّب ذلك الضوء الذي انكسر بداخل روحك.
كانت صحيفة "الوطن" قد نشرت قبل أسبوع، قصة الأب المضطرب نفسيا، حيث غادر الأب السجن لتوه، على أمل أن يجمع الدية المطلوبة منه، بسبب دهسه عمه بسيارته متعمدا، مما جعله في حال مضطربة، ليفكر بقتل طفليه سارة وعبدالله، لكن القدر وحده الذي أبقى سارة ذات الـ13 ربيعا على قيد الحياة، وذلك بسبب رفض مديرة المدرسة خروجها مع والدها، فيما أن مدير مدرسة الطفل عبدالله لتحفيظ القرآن قد سمح للأب أن يصطحب ابنه إلى المكان الذي قرر أن ينحره فيه، وعقب ذلك يبلغ الشرطة عما فعله.
إدارة التعليم قررت أن تعاقب مدير المدرسة والمرشد الطلابي والوكيل بالإعفاء، وتعد بمكافأة لمديرة مدرسة الابنة سارة والوكيلة، وذلك لمنعهما خروج الطالبة التي يفترض أن تكون الضحية الثانية، بالتأكيد المديرة والوكيلة لم تكونا ساحرتين كي تعلما الغيب، وكذلك الأمر بالنسبة لمدير مدرسة الطالب المنحور عبدالله، وأنا ضد معاقبة المدير والوكيل والمرشد الطلابي، الكثيرون سيقولون إنه رأي مبني على عواطف امرأة، وهذا الأمر لا يمكن التفلت أو الهروب منه، بطبيعة الحال المرأة من دون مشاعر لا يمكن إلا أن تتحول إلى أرض جرداء.. عطشى. ثمة أمور تدفعني لكي أفكر أعمق مما هو مسموح به، على سبيل المثال مديرات معظم مدارس المملكة لن يسمحن بخروج المعلمة وأي طالبة ببساطة وسهولة وتحضّر، تعنت مديرات المدارس أمر اعتاد عليه الجميع، بل وعانوا من مرارة الثقة المعدومة، وربما هذه المرة خرجنا بفائدة من هذه الإشكالية العميقة التي تعانيها المعلمات والطالبات على حد سواء، هذه المرة بفضل الله ثم بفضل رغبة بعض مديرات المدارس السلطويات، أنقذت حياة الطالبة سارة من سكين والدها، والآن جاء التكريم إذاً لتبشر المدارس بأكثر سلطوية من المديرات طمعا في التكريم.
ما زلت أؤكد على أن موقف وزارة التعليم لم يكن صائبا، واحتكمت إلى العواطف أكثر من العقل، فهل يمكن أن يمنع المدير أو حتى الوكيل الأب من اصطحاب ابنه معه؟ وهل كان القاتل سيعجز عن أن يأخذ الصغير بعد نهاية الدوام؟ بالتأكيد لن يقف شيئا أمام رغبة الأب، ولكن نستطيع أن نقول إنه سوء الحظ الذي أوقع مدير المدرسة "الحنون" في شرك لم يتنبأ له، وأظن أن المدير لم يكن ليقوم بذلك إلا لأنه لربما خشي من أن يقوم الأب بالشكوى عليه، فآثر أن يعفي نفسه من الصدامات مع الأب. لست في محاولة للدفاع عن أحد، لكني ضد العقوبات التي تعتمد على العواطف والمشاعر، فقط لكسب مشاعر الجماهير الثائرة، فهل كان المدير ومن معه يستحقان العقوبة؟ "نعم" لا شك في ذلك، ولكن أن تصل العقوبة إلى حد الإعفاء، فهذا ما لم أفهمه، فهل كان لدى المدير أمر من أي هيئة رسمية بحجز الابن وعدم السماح له بالخروج برفقة والده؟! فإن كان كذلك فأظن أنه يستحق العقاب اللازم، أما عدا ذلك فأنا ضد القرارات التعليمية الجائرة، إلى هذه اللحظة، والمعلمون والمعلمات يعانون معاناة كبيرة من جراء البيروقراطية وتقييد الحريات، لذا، من الضروري على وزير التعليم شخصيا، مراجعة قرارات وزارته، متذكرا أن مثل هذه العقوبات لن يتأثر منها الموظف فقط وإنما أسرته ومن يتحمل مسؤوليتهم.
كما لا يمكن لي أن أشكر المديرة والوكيلة لحماية الطالبة سارة، لكن التكريم ببساطة ما أسبابه؟ هل لأن المديرة تمتلك بلورة سحرية، وكشفت عن رغبة الأب في نحر ابنته؟!.