فجيعة أخرى مدوّية صدمت الناس بعد أختها التي سبقتها، من نوع الجريمة ذاتها. استدراج "ابن العمّ" خارج العمران؛ خديعته، والغدر به، ثم إرداؤه قتيلا يشخط دمه بعد أن يرجو ويتوسل خوفا على حياته؛ ويصيح: تكفى يا فلان، استعذ بالله من الشيطان الرجيم، غير أن القاتل لا يستعيذ؛ لأنه يعتقد أن هذا العمل الإجرامي الأثيم، وهذا الغدر والسلوك الذي لا يرضاه عقل ولا خلق ولا دين؛ قربة إلى الله تعالى! وحاشا وكلا والله؛ لا يُتَقرَّب إلى الله بالغدر والكذب والدجل والخيانة، ولا يُنصر الدين بالأراجيف والأكاذيب والأباطيل، بل من فعل ذلك يسيء إلى الدين على الحقيقة، يسيء إلى الدين أبلغ مما يسيء إليه أعداؤه؛ لأنه هدم للدين من داخله؛ أما أعداؤه فأمرهم مكشوف وتصرفاتهم معلومة مفهومة.
لست أدري إن كان هؤلاء (لا يزالون) يحتفون بسيد قطب أم لا؛ غير أن سيد قطب نفسه ينص كثيرا في مؤلَّفاته أن الغاية الشريفة لا يمكن الوصول إليها بوسيلة دنيئة؛ هذا إذا كانت الغاية شريفة فعلا، ولا نرى على أرض الواقع شرف الغاية، فضلا عن شرف الوسيلة، وأي غاية شريفة تقوم على استحلال دماء المسلمين -من أهل السنة فضلا عن غيرهم- والغدر بهم وذبحهم كالنعاج في أبشع الصور وأقبحها؟
الغدر نوع واحد، ودرجاته متفاوتة؛ لكنه غدر، ويبقى غدرا، من السعي إلى فضيحة خصم والتشهير به على رؤوس الأشهاد والإساءة إليه وقطع رزقه وتهييج الناس عليه و"قتله" قتلا معنويا -يتشابه في هذا بعض الخصوم مع الأسف-؛ مع ما يجرّه إلى ذويه من حرج وإساءة وأضرار مادية ومعنوية؛ إلى استدراج أحدهم ثم قتله قتلا حسيا.
كل هذا غدر، كل هذا غير أخلاقي، كل هذا جنس واحد، وإن اختلفت الدرجات، فمن لا أمان له في عِرض وسمعة ومال؛ لا أمان له -بالضرورة- في حياة ونفس؛ لأن (كل) المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعِرضُه؛ كما هو مرويّ عن الصادق المصدوق، صلى الله عليه وسلم، وكما قررته الشريعة بالقطع واليقين.
يرفع هؤلاء شعار "نصرة أهل السنّة" وهم يكفرون طوائف من أهل السنّة -من السلفيّين مثلهم فضلا عمّن سواهم-؛ فأيّ أهل سنّة يدّعون نصرهم؟ إن أهل السنّة عند هؤلاء هم من رضي بهم ونصرهم وخضع لهم وأيّدهم، فهل من السنّة هذا الإسراف في التكفير والاستحلال؟ أم هل من السنّة هذا الغدر والانحراف الضال الفاجر؟
إن هؤلاء ينطلقون من تكفير الحكّام والدول؛ إلى تكفير العلماء، إلى تكفير الجنود والعسكر؛ بتسطيح شديد، وفهم أعوج للكتاب والسنّة، فضلاً عن أقاويل الفقهاء، يرحمهم الله، وإلا فأعطوني فقيها واحدا معتبرا في تاريخ المسلمين كله يجيز ما فعله هؤلاء المجرمون القاتلون أبناء عمومتهم البسطاء المساكين لا لشيء إلا لأنهم جند من الجند؛ عند السلطة الكافرة بزعمهم!! ومن لم يكفّر الكافر فهو كافر، فكيف بمن عمل له ونال من الدولة راتبه؟! وهكذا يتوالى التكفير بالباطل والاستحلال في سلسلة تنتهي إلى تكفير البسطاء الذين يؤدون وظائفهم، ويقيمون صلاتهم، ويرجون من الله السماح والمغفرة والقبول كسائر عامّة المسلمين.
حتى المرتدّ -الذي ثبتت ردّته قطعا- يستتاب قبل قتله، وقيل: يستتاب أبدا ولا يقتل كما في مطولات الفقه الإسلامي، ومن يستتيبه إنما هو "القاضي المسلم"، لا أحمق لا يفرّق بين اسم الفاعل وحرف الجرّ، ولو سئل عن مسألة في الواضح من أصول الفقه ما عرف قابلها من دابرها؛ وإلا فُتح الباب لكل غرٍّ وجاهل وصبيّ فيقتل كل من يراه مرتدا كما يشاء ويشتهي؛ فتعمّ الفوضى والعبثيّة.
ليس هؤلاء القتلة الآثمون خوارج على الحكّام والدول؛ بل هم على التحقيق خوارج على المجتمعات، وعلى الأخلاق، بل على الدين الذي أُرسل نبيه رحمة للعالمين.
نُقِل عن بعض العلماء أنه قال: "ائتوني بزيدي صغير، أخرج لكم منه رافضيا كبيرا"، وبغض النظر عمّا في هذه المقولة من تعميم وإطلاق وأوصاف؛ إلا أنها صحيحة بوجه ما؛ إذ يمكن أن تنزّل على أشباه الدواعش في المجتمع، أشباه الدواعش الذين يقتربون من داعش في كثير من الإطلاقات والمواقف والأخلاق؛ وما دامت قد تكررت هذه الجريمة مرتين في مدة وجيزة؛ فربما يتشجع الدواعش المختبئون لتكرارها في المستقبل مع ذويهم وبني عمومتهم! فأي خطر داهم يتهدد المجتمع؛ إن لم تكن هناك وقفة صارمة، لا تعتمد على الأمن فقط؛ بل تعتمد على إتاحة الفرصة كاملة لخطابي الاعتدال والتصويب القائمين على قطعيات العقل والشرع.
ولست إذ أدين الغدر في طائفة أصفّق له في طائفة أخرى، ولست إذ أتفجّع لما يقع من جرائم في طائفة أهوّن من شأنه في طوائف أخرى؛ فجرائم الحشد الشعبي، تداولتها المقاطع، وطارت بها الصحف والأخبار. غير أن ظاهرة استدراج القريب وابن العمّ وقتله في غير خصومة شخصية، ولا ثأر قبلي، إلا بزعم التدين والقربة إلى الله، من الظواهر النادرة جدا في التاريخ الطويل بل المعدومة.
إن داعش وأشباهه لم ينزلوا من المرّيخ، ولم يخرجوا من باطن الأرض السابعة، إنهم أبناء هذا السياق، وأسرى هذه الظروف التي تعيشها المنطقة؛ ولئن راجوا على بعض الناس فلأسباب ليست إلا الانسداد السياسي الذي تعيشه المنطقة. رواج يغذيه خطاب دينيّ بائس؛ انتقائي، ومتناقض، يعيش خارج العصر، نسمعه ونراه كل يوم، ولا نملك إلا الحوقلة في كثير من الأحيان؛ إيثارا للسلامة، وخوفا من التصنيف في "القوالب المكارثية الجاهزة"، ولئلا ينالنا من الطيب نصيب!