في 19 ديسمبر 1971، راقب جيفري آرثر، آخر مقيم سياسي بريطاني في منطقة الخليج، الباخرتين الحربيتين البريطانيتين (إتش إم إس أكيلس) و(إتش إم إس انتريبيد)، وهما تغادران مرساهما في ميناء البحرين. السفينتان حملتا آخر القوات البريطانية المقاتلة الباقية في منطقة الخليج في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
كان آرثر لا يزال قادرا على رؤية السفن البريطانية في الأفق عندما وصلت مدمرتان أميركيتان مصحوبتان بقاطرتين بحرينيتين لتأخذا مكان السفينتين البريطانيتين. فهم آرثر يومها أن هذا المشهد قد يكون نبوءة لما سيأتي من أحداث. وبالفعل، كان ذلك المشهد بداية لدخول القوة الأميركية وحلولها مكان القوة البريطانية ليس في منطقة الخليج فحسب، ولكن في الشرق الأوسط بشكل عام.
مراجعة صريحة
يقدم الكاتب أندرو باسيفيتش، وهو مؤرخ وكولونيل متقاعد في الجيش الأميركي، في كتابه "حرب أميركا من أجل الشرق الأوسط الكبير" مراجعة نقدية للسياسة الأميركية وتدخلاتها العسكرية فيما يسميه "الشرق الأوسط الكبير" خلال الـ35 سنة الماضية. الكتاب يتحدث بصراحة وبأسلوب مباشر من كاتب معروف بانتقاده الحاد للسياسة الأميركية الخارجية. الفكرة الرئيسية للكتاب تقول إن تجربة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط على مدى الـ35 سنة الماضية هي عبارة عن حرب متواصلة في قلب العالم الإسلامي مستمرة حتى يومنا هذا. يقول الكاتب منذ البداية "نحن لم ننتصر فيها. نحن لسنا في طريقنا للانتصار. مجرد المحاولة بشكل أكثر جدية ليس من شأنه أن يقدم نتيجة مختلفة".
بالنسبة لـ"باسوفيتش" نقطة التحول لم تكن مغادرة السفن البريطانية في 1971، ولكن إعلان الرئيس جيمي كارتر في يناير 1980 في خطاب حالة الاتحاد: "ليكن موقفنا واضحا تماما: محاولة أي قوة خارجية للسيطرة على منطقة الخليج ستعتبر هجوما على المصالح الحيوية للولايات المتحدة الأميركية، ومثل هذا الهجوم سيتم صده بأي وسيلة ضرورية، بما في ذلك القوة العسكرية". عقيدة كارتر هذه كانت تهدف بشكل رئيسي إلى ضمان استمرار الملاحة البحرية بشكل آمن في منطقة الخليج، وكانت مؤشرا على دخول عهد جديد يشير إلى إمكان التدخل العسكري في منطقة كانت في السابق متروكة للدبلوماسية فقط.
عقيدة كارتر
يعتقد باسيفيتش أن "عقيدة كارتر" كان لها أساس إستراتيجي منطقي متماسك، لكن المشكلة تكمن في توسيع المهمة الأميركية بشكل ثابت ومستمر لأسباب غير واضحة. في رأي باسيفيتش مقاربة الولايات المتحدة في المنطقة فقدت رؤيتها الواضحة للمصالح الأميركية. اختفت القوى المحفزة الأساسية وراء السياسة الأميركية، ومع ذلك فإن البصمات العسكرية الأميركية لا تزال مستمرة في المنطقة، وكأنها غاية بحد ذاتها. يقول باسيفيتش: "مثل الحرب على المخدرات والحرب على الفقر، أصبحت الحرب من أجل الشرق الأوسط الكبير من ثوابت الحياة الأميركية وأصبحت مقبولة على هذا الأساس".
النخبة المستفيدة
لماذا تبدو الولايات المتحدة غير قادرة على الخروج من مأزقها في المنطقة؟ يقول باسيفيتش إن هناك ببساطة كثيرا من المكاسب التي تحققها أطراف أميركية من استمرار الوضع الراهن. بالإضافة إلى ذلك، فإن عدم وجود معارضة حقيقية للتدخلات العسكرية الأميركية في الخارج وعدم اهتمام الرأي العام الأميركي بالقضية يضمن استمرار مجموعة صغيرة من النخبة في الولايات المتحدة التي تتخذ القرارات حول الحرب والسلام. الجيش الأميركي الذي يتشكل بكامله من المتطوعين، والذي يخدم فيه أقل من 1% من الشعب الأميركي، يضع عموم الشعب على مسافة مريحة من أي نتائج للسياسات العسكرية المتبعة.
المصادر الخارجية
يقول باسيفيتش إنه "منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى 1980 لم يقتل أي جندي أميركي في عملية عسكرية خلال خدمته في المنطقة... منذ 1990 لم يقتل أي جنود أميركيين عمليا في عمليات عسكرية في أي مكان سوى في الشرق الأوسط الكبير". يذكِّر باسيفيتش القارئ أنه خلال السنوات التي فصلت ما بين مغادرة الجيش البريطاني وإعلان كارتر، كانت السياسة التي اعتمدتها الولايات المتحدة لضمان استقرار المنطقة تعتمد على الاعتماد على المصادر الخارجية، خاصة أن أميركا كانت لا تزال تعاني.
في رأي باسيفيتش كان المنطق يحتِّم على الولايات المتحدة حماية قدرتها وقدرة حلفائها على الوصول إلى منابع النفط بشكل آمن. وقائع الثورة الإيرانية والغزو السوفيتي لأفغانستان أقنعا كثيرين أنه آن الأوان للتدخل الأميركي بشكل أكثر قوة في المنطقة، لأنه لم يعد بالإمكان تحمل احتمال تعرض "الشريان التاجي" لأميركا وحلفائها لأي خطر. في السنوات التالية سعت الولايات المتحدة إلى وضع خطط لمواجهة أي تطورات ممكنة، بما في ذلك احتمال غزو سوفيتي لإيران.
تدخلات فاشلة
يقول باسيفيتش إن جميع التدخلات العسكرية الأميركية في المنطقة تقريبا أدت إلى نتائج مأساوية، وفشلت في تحقيق الأهداف التي وضعت لها. يشير البعض إلى حرب الخليج في 1991 على أنها كانت انتصارا ساحقا، لكن باسيفيتش يحذر من أنه أسهم في تعزيز الأوهام وارتكاب الحماقات فيما بعد. فبالرغم من الانتصار العسكري الباهر للقوات الأميركية إلا أن نتائج التدخل العسكري الإستراتيجية لم تكن مهمة، ولم تفعل شيئا لمواجهة التحديات العميقة في المنطقة. والأمر الذي أدى إلى ضرر أكبر كان "الاعتقاد السائد بأن الولايات المتحدة أصبحت تتمتع الآن بهيمنة عسكرية لا نظير لها". هذه "القراءة الخاطئة الأساسية" لعملية "عاصفة الصحراء"، في رأي باسيفيتش، قادت الولايات المتحدة إلى مشاكل وويلات كثيرة فيما بعد.