قبل عدة أيام أثار تصريح نُسب لوزير التعليم أحمد العيسى غضب الكثير من المواطنين، يتعلق تصريحه بعدم رضاه عن خريجي الانتساب بقوله المزعوم عنه، إنه: "غير مقتنع شخصيا بأن خريجي الانتساب يصلحون للعمل في الوظائف التعليمية". أعقب هذا التصريح نفي المتحدث الرسمي للوزارة مبارك العصيمي عن مخاطبة العيسى للجامعات بإيقاف الدراسة بنظام الانتساب لعدم قناعته بمخرجاتها. وبطبيعة الحال ليس من المنطق أن يتم التعامل مع أي قضية في أي وزارة لأن وزيرها غير مقتنع بها بشكل شخصي، وهذا ما أوضحته الوزارة لاحقا أنها تعمل الآن على دراسة متأنية حول برامج الانتساب ومعرفة إيجابياتها وسلبياتها ومدى ملاءمتها لخدمة المجتمع.

للدراسة الجامعية بلا شك أهميتها بشكل شخصي في رفع المستوى المعرفي والثقافي للفرد خاصة مع انشغاله في البحث والاطلاع في التخصص الذي اختاره، ولها فائدتها في خدمة المسارات التي تحتاجها سوق العمل، ولكن مع ازدياد عدد الخريجين سنويا وتباين مخرجات الجامعات عن الحاجة الفعلية للواقع أصبح معها زيادة عدد المقبولين في الجامعات عبئا نتج عنه زيادة عدد العاطلين من خريجي الجامعات وزيادة عدد المنتسبين في تخصصات لا يسمح الواقع بالاستفادة منهم.

قضية الدارسين بنظام الانتساب في الجامعات تحتاج أن يتم تناولها بطريقة عملية وبعيدة عن العاطفة، والنظر لها من زاويتين؛ الأولى: من زاوية الدارس المنتسب نفسه وهدفه من هذه الدراسة، والأخرى: مدى استفادة المجتمع وسوق العمل من العدد الكبير لخريجي الجامعات بشكل عام وخريجي الانتساب بشكل خاص، سواء من يتوقع توجههم للقطاع التعليمي أو غيره من القطاعات.

في الغالب أن من يكمل تعليمه بنظام الانتساب هو إما من لم يتمكن من مواصلة التعليم المنتظم لظروف اجتماعية خاصة، أو أنه أدرك متأخرا أن عليه الحصول على شهادة جامعية بعد تقاعسه عن الانتظام في الجامعة بعد الدراسة الثانوية. أو أنه يسعى للترقية في عمله الذي يتطلب أن يكون حاصلا على مستوى جامعي على الأقل للحصول على درجة متقدمة وظيفيا وبالتالي زيادة في راتبه الشهري. بالنظر للعدد الكبير للعمالة الوافدة في المملكة الذين وصل عددهم مؤخرا إلى قرابة 8 ملايين عامل يشغلون وظائف حرفية بسيطة، فإن التوسع في قبول جميع خريجي التعليم العام في الجامعات سيزيد من الفجوة الحالية بين أصحاب الشهادات الجامعية وبين الأعمال التي تتطلب مهارات يدوية وحرفية بسيطة. كما أن الاعتماد على الطالب المتخرج بنظام الانتساب في بعض الوظائف "كالتعليم" يحتاج جهدا مضاعفا لاحقا لتهيئته للعمل كمعلم، أو أنه سيباشر العمل دون مهارات كافية تساعده على تأديته بشكل صحيح لعدم انتظامه في الدراسة وما تتطلبه من جهد أكاديمي عملي يشكل خبرة كافية للعمل التعليمي القادم، وهذا سيتسبب في مشاكل تعليمية وتربوية أخرى نحن في غنى عنها.

إيقاف الدراسة في الجامعة بنظام الانتساب أصبح ضرورة، ويجب أن يكون بدلا عنه التوجه لافتتاح معاهد تعنى بتدريس شرائح الشباب والشابات من خريجي الثانوية العامة التي لم تمكنهم درجاتهم في التعليم العام من الالتحاق بالدراسة الجامعية وتدريبهم وتهيئتهم للعمل في المهن التي تتطلب أعمالا حرفية، ومعرفة احتياجات سوق العمل الفعلية وتخصيص مسارات دراسة وتدريب تلائمها، حتى يتم مستقبلا إحلالهم بدلا من العمالة الوافدة التي تسيطر على كثير من المهن. وعلى المنشآت الحكومية والخاصة أن تبتكر نظاما خاصا بالترقيات والعلاوات لا يعتمد على ضرورة وجود الشهادة الجامعية، بل يقوم على أساس الخبرة والإنتاج والمهارة.

في هذا الوقت على الناس أن تدرك أن الشهادة الجامعية لم تعد ضرورة ملحة أو نوعا من "البرستيج" الاجتماعي الذي يحرص عليه البعض، أو أن الحكومة ممثلة بوزارة التعليم ملزمة بتوفير مقعد جامعي لكل طالب تخرج من الثانوية العامة، بل إنها يجب أن تكون ميزة وأن تركز على التخصصات الصعبة ليتزامن مع صعوبتها التعلم الجاد والبحث الذي ينعكس أثره على الدارس وعطائه الوظيفي مستقبلا. وبتقليل التركيز على الحصول على الشهادة الجامعية سيفتح المجال بشكل كاف للوظائف الأخرى، ويكسر حاجز التردد والخجل من ممارستها، وستتاح الفرصة للآلاف من الشباب والشابات المحتاجين الحصول على مهن تناسب قدراتهم وتساعدهم في كسب رزقهم والمساهمة في نماء مجتمعهم وربما تمكنهم من تملّك مشاريعهم الخاصة مستقبلا. ولا ننس أن كثيرا من أثرياء العالم ومشاهيره بدأوا حياتهم المهنية بوظائف بسيطة وانطلقوا في عالم النجاح حينما منحوا أنفسهم الفرصة للعمل الحر وآمنوا بشغفهم وبعضهم لم يكمل دراسته الجامعية.

أختم بما قاله الروائي الشهير باولو كويلو في أحد مقالاته قديما: "إن معظم أصدقائي وأولادهم حاصلون على شهادة جامعية. وهذا لا يعني أنهم الآن يعملون في وظيفة أحلامهم. وعلى العكس تماما، لقد أنهوا دراساتهم الجامعية لأن أحدا ما، في وقت من الأوقات، قرر أن الحصول على شهادة جامعية أمر مهم إذا ما رغبوا النجاح في الحياة. ولهذا السبب فإن العالم يفوت الآن فرصة وجود بستانيين أو حلاقين أو نحاتين أو كتابا عظماء".