قديما تجادل الفلاسفة حول الأسبق إلى الكون، هل هو الخير أم الشر، النور أم الظلام؟ لينسلكوا في متوالية من الجدل؛ ما زالت تناقش حتى اليوم، فاستدلوا فيما ذهبوا إليه من أسبقية الشر للخير بصرخة المولود عند الوضع، فجعلوا منها دليلا على أسبقية الشر، إذ لو كان الخير الأسبق لكان الضحك أو الصمت هو الملازم للمولود في تلك الحالة، لولا أن البكاء هو السمة الملازمة لجميع المواليد. فجعلوا من بكاء المولود حجة فيما ذهبوا إليه من رأي، إلا أن المعاصرين منهم -وبعد تجليات العلم الحديثة- سلكوا مسلك التأكيد على خيرية الإنسان، وتأصل الخير في نفسه، ليتبع ذلك ترجيحهم أسبقية الخير، وأصالته في الوجود.

فرب أزمة أورثت نعمة، ونور أعقب ظلمة، فالإنسان أودع فيه البارئ جل وعلا من الطاقات ما يجعله يتغلب على الظروف، بشرط أن يحسن استثمار طاقاته، ويوظفها في مجالها الملائم.

وقد لا يتعرف الإنسان على تلك الطاقات الكامنة، إلا تحت وطأة الظروف، وتأزم الموقف، وأشباه ذلك كثير، ونظائره متعددة، فالأزمة عارض، سرعان ما يتعامل معه الإنسان بجدية مفروضة، تفرض الحل وتحسم النتيجة.

وكلما كان الإنسان أكثر تفاؤلا بغد أفضل ومستقبل أجمل، أصبح وقد تخفف من أصر الأزمة، وحل من أغلالها، حتى ينعتق من جلبابها، وهو مزود بتجربة حياة وجرعة تحمّل.

ففي الطب الحديث تحصن الأجساد من الأمراض بجرعات مخففة من الأمراض نفسها، فيكتسب الجسم مناعة ضدها، وكذلك الأزمات تمنح النفس قوة، فتغالب أزماتها إن عادت، وهي مشبعة بتجربة رصينة، تدفع إلى صدها والحد من أضرارها.