عندما يتم النقاش حول مشكلة اجتماعية ما ويرغب المتناقشون في طرح الحلول نجد أنهم في الغالب ينقسمون إلى فريقين، الأول يرى ضرورة توعية الناس ونصحهم للحد من تلك المشكلة، بينما يرى الفريق الآخر ضرورة سن القوانين الصارمة للحد من تلك المشكلة، الفريق الأول يرى الحل في تغيير الأفكار، بينما يرى الفريق الآخر أن تغيير الواقع مباشرة هو الحل، وهذا الاختلاف في الرؤية يشبه كثيرا الفرق بين من يرى أن السعي إلى مستقبل مشرق لا بد أن يبدأ ببناء الإنسان عبر التعليم والتربية وبين من يرى أن النهضة تتم عبر فرض واقع اقتصادي ووظيفي جديد يغير المجتمع نحو الأفضل.
على مستوى الدول والأمم في سقوطها ونهوضها نلاحظ أيضا أن هنالك دولا عديدة نشأت أو تلاشت عبر أفكار مسبقة وضعت على يد مفكرين أو فلاسفة، بينما دفعت ظروف الواقع دول أخرى إلى النهوض أو السقوط دون وجود أفكار مسبقة.
الجدل حول أسبقية الفكرة أو الواقع جدل قديم جديد، ويتغير شكله متخذا عدة أشكال، سواء كانت على مستوى الرؤية أو التطبيق، وقد لا يتضح أن هذا الجدل هو أساس الاختلاف في كثير الأمور إلا عند استحضاره وفهمه من كافة جوانبه، من جهة أخرى فإنه بالإمكان ملاحظته من خلال سماع حديث بعض المسؤولين حين يتحدثون عن خططهم ورؤيتهم لتطوير إدارتهم أو حين سماع تعليق لأحدهم حول أحداث أو حلول معينة. ولا يعرف كثير من الأشخاص العاديين أنهم يؤيدون ذلك التوجه أو التوجه الآخر، إذ إن مثل هذه الرؤية تكون مختبئة داخل تفكير الإنسان، لكنها تظهر ويمكن ملاحظتها من خلال مناقشته أو معرفة رؤيته حول بعض الأمور.
كثيرا ما نلاحظ طرح بعض الحلول أو التفسيرات بطريقة تسعى إلى الجمع بين الأمرين، كأن يتم إطلاق حملة توعوية لمعالجة أمر ما بالتزامن مع البدء في سن القوانين التي تمنعه وتعاقب مرتكبه، في الغالب نجد مثل هذه الحلول التي تحاول السير على الاتجاهين تركز عملها على ناحية دون الأخرى، لأنها تؤمن بأنه هو الحل وإن لم تصرح بذلك، كما نلاحظ على صعيد التطبيق أن أحد الأمرين كان هو الحل بالفعل، ولم تكن هنالك حاجة حقيقية إلى الأمر الآخر.
وعلى مستوى الواقع الآن ومن خلال التجارب وملاحظة النتائج نلاحظ دوما أن التغيير الاجتماعي لا يحصل إلا عبر فرض القوانين والتغييرات على أرض الواقع، خصوصا في الأمور المهمة والملحة والتي لا تقبل التأجيل، بينما وعلى مستوى التغييرات الكبرى وبعيدة الأمد فإنه من المهم بذل الوقت والجهد في وضع التصورات والرؤى وطرح الأفكار قبل التنفيذ، وكلما وضحت الأفكار وتعمقت وفهمت كان أثرها أكبر وتطبيقها أسهل. ولا بد من الإشارة هنا إلى ضرورة أن يكون صانع الأفكار بعيدا عن ميدان العمل والعكس صحيح، وهذا ما نلاحظه في التجارب الناجحة لنهوض الأمم في السابق، حيث قامت على أفكار فلاسفة ومفكرين كانوا بعيدين جدا عن معترك السياسة والاقتصاد.