يذهب المؤرخون وعلماء الاجتماع ومعهم طائفة من فلاسفة النشوء ودارسي (الجيوبولتيك) إلى ربط التحولات التاريخية بقانون التراكم الكمي والنوعي المعبر عن تجارب وخبرات الشعوب، خلال فترات زمنية متفاوتة المسافات، غير أن التاريخ بتحولاته المؤثرة على قيام الدول ومساهماتها في سجل الحضارات لا يتحرك من ذات نفسه، كما أن تراكم أحداثه وتجاربه لا تتحقق نتائجها بشكل تلقائي، وإنما يحدث ذلك بفعل ملكات استثنائية، لديها القدرة على تحديد خياراتها واكتشاف عناصر القوة المتاحة أمامها، والنفاذ إلى ما يدخره التاريخ لها من تجارب، أو يمليه الواقع الزمني من تحديات وبذلك تمتحن الذاكرة البشرية عهود الزعماء والقادة ويتعقب التاريخ حقبهم، ويطيل وقفاته مع عدد قليل من العبقريات القيادية التي أجادت صناعة الأحداث واقتحمت بواباته بمشاهد تعكس معنى الاستخلاف الإلهي، وتجسد دلالاته على بناء النظم السياسية وتطوير علاقات الشعوب ببعضها، وإعلاء مكانة القيم الرسالية على ما عداها من موازين.
ولا غرو أن يأتي العصر بقوانين غير التي فرضت نفسها على قواعد التفكير، وأنماط المعرفة الإنسانية خلال مراحل طويلة من عمر الأيديولوجيا، إذ لم يعد قياس مستوى التطور في هذا البلد أو ذاك رهناً للقناعات المسبقة والمواقف الجاهزة.. وهو الأمر الذي أدى إلى اتساع مساحة الانقسام في المنطقة، وحال دون تكامل القدرات العربية، وارتفاع نبرة الخطاب العدمي الذي يتغذى على ثقافة الاتهام والوصم.. وبمنطق الأيديولوجيا كما كان سائداً، فإن الأحكام الجاهزة لا تعوزها الحاجة لحقائق الواقع، فما من حقيقة يمكن معاينتها خارج المسلمات الذهنية للعقل المؤدلج.
إن أكثر سمات العصر وضوحاً في حياتنا الراهنة؛ تتمثل في قدرة مجتمعاتنا على رؤية الحقائق، دون وسائط (فلترة) وبناء القناعات المجردة بمعزل عن المؤثرات الأيديولوجية.
وتأسيساً على ذلك، لا أبالغ في اعتبار حقبة الملك عبدالله بن عبدالعزيز محطة بارزة تنبئ بتحولات استراتيجية هامة، تتواتر مؤشراتها على مستوى الإصلاحات الداخلية أو على نطاق علاقات بلاده بدول الجوار الإقليمي ومنهما إلى الدور –اللوجستي- السعودي مع دول وشعوب العالم.
المؤكد أن مسيرة الحكم في المملكة ركمت منذ انطلاقتها الأولى على يد الملك الموحد عبدالعزيز حتى اليوم مخاضات هامة، تبلورت معها تطلعات المجتمع السعودي الشقيق خاصة على مستوى البنية الداخلية المتماسكة ونجاعة نظامها التعليمي الذي يعكس استراتيجية الدولة، وعنايتها الفائقة بالتنمية البشرية، وكلا الإنجازين يعضد الآخر ويعزز دور المملكة لتؤدي رسالتها الدينية عربياً وإنسانياً.
لهذا عدّت حقبة الملك عبدالله تتويجاً لمحطات تاريخية جمعت في ثناياها بين وطنية عبدالعزيز وغيرة نجله الملك الشهيد فيصل وهو يخوض أول وأَهم معارك النفط كسلاح نافذ أثناء حرب 74 وبين دهاء وحنكة الملك فهد خلال حربي الخليج الأولى والثانية لتستقر محصلة هذا الثراء المتعاقب في كنف حقبة جديدة يقود زمامها الرجل الأكثر حرصاً على الحريات، والأجدر بصناعة التحول التاريخي في علاقات بلاده ببلدان الجوار وبطليعتها اليمن.
ولئن كان الحديث عن هذه الحقبة جزءًا من بحث قيد الإعداد إلا أن اجتزاء واحدة من أهم مفرداته فيما يخص العلاقات اليمنية السعودية؛ يمثل دعوة مفتوحة لذوي الاهتمام بغية المساعدة على وضع هذه العلاقات في إطارها الصحيح حتى تأخذ طابعاً نموذجياً يرقى إلى مصاف التحديات المشتركة التي تلوح في الأفق.
حقبة الملك عبدالله وهي توفر الإرادة السياسية المطلوبة للتغيير ذاتها توجب على القوى الخيرة والنخب الفكرية الخاملة في البلدين أن تحسن التعاطي مع تلك الإرادة الجسورة، وأن تلتقط زمام المبادرة وتدفع بعلاقات البلدين نحو آفاق جديدة، خاصة وقد صار بوسع بضعة إرهابيين تحريك المياه الجامدة وخطف الأضواء على حساب شرائح سياسية وفكرية واجتماعية يمكنها إبداع فلسفة الحياة في مواجهة الثقافة العدمية التي تمجد الموت وتدمر مشروعيات التعايش والسلامة العامة للمجتمعات.
إن تحدي الحياة وفهم وظائفها وتأمين سعادة ورفاهية الإنسان فيها؛ يستدعي من طلائع المجتمع دفع الإرادة السياسية التي تتيحها الأقدار في مراحل متفاوتة من التاريخ إلى الأمام، وتعزيزها بالرؤى المتقدمة والالتفاف الصادق وإلاّ ذهبت فرصها أدراج الرياح.
في هذا الصدد نسأل: هل كانت أوكار الإرهاب في كلا البلدين أو أي تعبيرات مماثلة قادرة على استنزاف طاقات وجهود المملكة واليمن لولا الفراغات التي أخلتها القوى الخيرة والطلائع المتنورة في السعودية واليمن؟
إن أبلغ النتائج الكارثية الناجمة عن الإرهاب والتطرف؛ تتمثل في قدرة القوى الشريرة على تحجيم دور المعرفة، ووضع المجتمعات تحت طائلة الاشتباه، وهو الأمر الذي يؤثر على الطابع العام لمفهومي الأمن المشترك والمسؤولية الجماعية.
أنه لأمر محير فعلاً أن تخفق محاولات شتى في كلا البلدين لتأسيس جمعية أخوة يمنية سعودية، فيما تطور عناصر الإرهاب شبكة علاقاتها، فتقتحم الأسوار وتعيد تنظيم نفسها إثر كل ضربة أمنية، وما تنفك توفر مبررات التدخل الخارجي، وتستعدي العالم على البلدين بتقليعاتها المبتكرة من أطوار الجريمة المطورة، وهي إلى ذلك تنسج نوعاً من الثقة بين مكوناتها، متعددة الجنسيات، ويعجز مثقفو اليمن والمملكة عن خوض تحدي المواجهة لأسباب قد لا يكون لهم يد فيها.
أن الحديث عن الممكنات الراهنة في حقبة الملك عبدالله؛ يستدعى البحث عن آفاق جديدة، تتجاوز مصالح القوى التقليدية إلى بناء معابر اتصال وتواصل وقنوات تنسيق وعمل اجتماعية وثقافية واقتصادية مشتركة، قادرة على تحصين هذه العلاقات من الانتهازية السياسية، التي تقتات على زرع الوقيعة، وتعكير الأجواء. كما يتطلب الأمر نوعاً من المراجعات الجادة التي تفيد من دروس الماضي وتستشرف بمسؤولية ووعي ملامح المستقبل.
وبدون ذلك فإن علاقات البلدين ستظل تراوح مكانها المعتاد بين خطوة - مباغتة - إلى الأمام وأخرى - غير محسوبة - إلى الخلف في حين يترصد أكثر من حصان طروادة صنعاء والرياض معاً.