تبدو منظمة (مراسلون بلا حدود) على سبيل المثال مُتّسقة مع ذاتها عندما ترحّب بنشر وثائق الحرب في العراق عبر (ويكيليكس)، وكذلك معارضو الحرب، وأنصار حقوق الإنسان، والمنحازون لوسائل الإعلام الجديدة، كلّهم لا يبدو تأييدهم لنشاط (ويكيليكس) إلا جزءاً من مبادئهم الأساسية ومشاريعهم التي ينخرطون فيها. أما التأييد السياسي الرسمي عالي المستوى الذي عبّرت عنه المنظمات العربية لنشر وثائق حرب العراق، فيمكن تصنيفه في باب (الأخبار الطريفة). لقد اندفع ممثلو المنظمات لأخذ (جوليان أسانج) بالحضن ـ لغوياً ـ وهوَ حضن لا أظن (أسانج) سيكون راغباً فيه، هو الذي أبدى سعادته في حديثه في أحد مؤتمرات TED Talks يوليو الماضي بنشر أي وثائق "تكشف انتهاكات الحكومات العربية لحقوق الإنسان".

ما تمثله (ويكيليكس) للصحافة هو حالة متطوّرة من عمل وسائل الإعلام الجديدة. فالمادّة المنشورة ليست مجرّد شهاداتٍ حيّة لأفراد يتبرّعون بتمريرها إلى العالم على (تويتر) كما حدث أيام المظاهرات الإيرانية، لكنها حالة متقدّمة يسعى فيها الأفراد عمداً للحصول على المعلومة السرية من المؤسسة وتسريبها إلى المنظمة الإلكترونية. وهيَ ليست أخباراً أو مقتطفات بل كمّ هائل من الوثائق تنشر كما هيَ في حالتها الخام للجمهور، أعني دون تحويلها إلى عناوين عريضة وأسطر مكثفة، فيكون كل واحدٍ من الجمهور قادراً على تفحصها وتحليلها بنفسه، دون وسيطٍ يحللها بدلاً عنه ويختار منها فقط ما يلائم معايير المؤسسة الإعلامية كما هو الحال في الفضائيات والصحف. وأخيراً، (ويكيليكس) منظمة غير ربحية تعيش على دعم الأفراد والمتبرّعين بمهاراتهم التقنية ووقتهم ومالهم، لا يوجد مجلس إدارة يموّلها ثم يفرض عليها ما يجب أن تقوله، ولا قوانين تحدّ من حركتها. من الواضح أن (ويكيليكس) تعبّر بشكلٍ متقدّم عن حالة "الأفراد في مواجهة المؤسسة"، الحالة التي هيَ روح ومعنى الإعلام الجديد. وإذا كان النشاط المحلّي على الإنترنت في أيّ دولة يمثل جزءاً من حراك المجتمع المدنيّ، فإن (ويكيليكس) بنشاطها العابر للقارّات تعبّر عن مجتمع مدنيّ على مستوى مواطني العالم، ليس في مواجهة المؤسسة العسكرية الأمريكية فقط أو المؤسسات الإعلامية التقليدية، إنها تقف بإزاء النمط المؤسسيّ ذاته كما تشكّل في العصر الحديث، بحيث يحتكر المعلومة أو يخضع لسيطرة المصالح السياسية والاستثمارية. (ويكيليكس) مُنظمة مارقة، إن جاز التعبير.

من الواضح الآن، لمَ أعتُبر إطراء الدول العربية لعمل (ويكيليكس) أمراً طريفاً. فإذا كانت المؤسسة السياسية الأمريكية تقف ضد ما فعلته (ويكيليكس) رغم أنها تؤمن مثلها ـ من حيث المبدأ ـ بالحريات وحقوق الإنسان؛ فإن ما يخلق الطرافة في الحالة العربية هو احتداد المفارقة، عندما تؤيّد المؤسسات في الدول العربية على أنواعها (ويكيليكس)، رغم أنها تقف على الطرف النقيض لكل ما تعنيه: الشفافية، حرية التجمعات المدنية، حقوق الإنسان، والأهمّ: الضوابط العالية التي تحكم أداء المؤسسة. ترحيب الدول العربية لم يكن إلا ترحيباً سياسياً فقط، و بهذه الحادثة بالتحديد ـ تسريب وثائق حرب العراق ـ لا ترحيباً بالقيم أو أسلوب العمل الذي تمثله (ويكيليكس). ولا أظنّ أن المفارقة تقف عند المؤسسات، بل تصل إلى الأفراد، معظم المواطنين العرب الذين أعجبوا بـ(جوليان أسانج)، لكنهم ما كانوا ليشاركوا فيما يفعله. فقبل التفاصيل المُبهرة حول أساليب استقبال وتشفير المعلومات أو تدقيقها، يوجد مفتاح (ويكيليكس) في فِعل التسريب ذاته، في قيام أفرادٍ ينتمون إلى مؤسسات عسكرية أو اقتصادية أو سياسية ويمتلكون القدرة على الوصول إلى المعلومات، بالتسريب المتعمّد لتلك المعلومات التي يعرفون جيداً أنها سيئة لسمعة المؤسسة، التي تحتضنهم وتتوقع منهم الولاء لها والحفاظ على أسرارها.

فعل التسريب هذا يعني وعياً مختلفاً بماهيّة الأخلاق، عن السائد بين الفرد والمؤسسة العربيين. إنه يرى التسريب كعملٍ أخلاقيّ رفيع، يمثل التزام الفرد بالقيام بدورٍ رقابيّ تجاه المؤسسة، واستعداده لتخطّي الولاء التقليدي نحوها إذا ما تجاوزت المؤسسة قيماً عامّة يفترض أنها تلتزمها في العلن، إنه يعني أن الفرد يحمل ولاءً تجاه هذه القيم العامة يفوق ولاءه للمؤسسة، مع استعداده لتحمّل ثمن الدفاع عنها، وبهذه الطريقة تتسرب القصص الداخلية الموثقة عن الفساد وجرائم الحرب والإضرار بالبيئة أو الصحة العامة، من خلال شخصٍ داخليّ اختار أن "ينفخ الصافرة". ليس من قبيل الصدفة أن يوجد عددٌ قليلٌ جداً من الوثائق العربية المسربة على (ويكيليكس)، إذا كان المواطن العربي ينطلق من وعي مختلف، فعلاقة المؤسسة بالفرد عربياً علاقة أبوية، والمؤسسة تتوقع من الفرد ولاء مطلقاً لها ونرى لمحة من هذه العلاقة في خطابات المؤسسة التي تُضمر (المِنّة) بما تقدمه لأفرادها ومجتمعها، والولاء الأعمى للمؤسسة التي تأخذ الطابع الأبويّ يجعل التسريب جريمة عظمى لا يجرؤ عليها الفرد وقد لا يغفرها له المجتمع، أو لا يدعمه أو ينقذه بالطبع لو فعلها. وضعف الولاء لقيمٍ عليا في مقابل ضغط لقمة العيش والاحتياجات اليومية يجعل من الولاء للمؤسسة مهما فعلت، عملاً حصيفاً عاقلاً. ولهذا، ورغم أن التسريب يمكنه أن يكون مصدراً عظيماً للأخبار على الإنترنت أو عبر وسائل الإعلام القليلة التي تحظى بنوعٍ من الاستقلالية والجرأة في العالم العربيّ، إلا أن الوثائق والأخبار المسربة لاتزال قليلة العدد ولا تشكّل مصدراً دائماً لهذه الصحافة.

لهذه الأسباب، أشعر أن هذه اللحظة خاصة، وأودّ أن ألتقط صورة تذكارية للعالم العربيّ سياسيين وأفراداً وهم يحتفون بـ(ويكيليكس)، وأتوقعّ أنها في أيّ لحظة قد تصبح موقعاً ملعوناً وبالطبع، محجوباً.