المتأمل في حالنا اليوم يلحظ -وبأقل نظر- أن معظم خلافاتنا "الفكرية" تفتقر إلى الإطار الأخلاقي الذي يحيطها من جميع جوانبها فيقيها ويقينا من الشطط والانحراف والانفلات والخروج عن الحد إلى درجة الطغيان؛ فإذا بنا -بوعي أو بغير وعي- نتمادى في الخلاف حتى لنخرج من سياج الفكرة إلى القدح في الأشخاص والذوات، تتبعا للأمور الشخصية، وبحثا عن المعايب والمثالب المدعاة أو الواقعية؛ بل يتجاوز الانحطاط هذا إلى الحديث في اللون أو العرق أو النسب أو المنطقة مما لا علاقة له بالفكرة أصلا وليس للمرء فيها أي اختيار!
ولئن أعجز المتتبع عورة يقتنصها لجأ إلى إلقاء التهم والأراجيف والأكاذيب التي تلقى رواجا سريعا بين الناس. تربص أشبه بتربص الجنود في المعركة، وربوض أشبه بربوض الوحش ينتظر فرصة الانقضاض على فريسته. إنها الجاهلية العمياء في ثوب ليبرالي تارة، وثوب إسلامي تارة.
لقد أظهرت وسائل التواصل مكنونات أنفسنا، وأبانت -حقا وصدقا وبلا تكلف- مستوانا الأخلاقي، وموضعنا في التربية، ومحلنا من الرقي، هذا لا يعني أن الجميع متلبس بما وصفته أعلاه، ولكن صوت المتلبسين مرتفع، وله جلبة وضجيج.
الخلافات الفكرية التي نشهدها منذ مدة ليست خلافات فكرية حقيقية، فاختلاف الفكر -الذي يصح اعتباره خلافا فكريا- قائم على البحث والدراسة والاستقراء والاجتهاد والاستدلال، والإبداع، خلاف يثري العقول والأفكار، ويبعث على التأمل والنظر، لكن الخلاف الظاهر على السطح اليوم هو اختلاف حزبي -على الحقيقة- يغلب عليه اصطياد الحدث واستغلاله لضرب الخصم وإسقاطه إسقاطا، وتزييف الحقيقة بشتى أنواع التزييف، واصطناع الكمائن، والاستدراج، والاستقطاب. لا ينير عقلا، ولا يثير فكرا، إلا ضغائن النفوس وأحقادها، فإذا المختصمون أشبه بفريقين لكرة القدم يتباريان لتسجيل الأهداف، أو متلاكمين يتنافسان لكسب النقاط! بل ليت الأمر كان كذلك؛ فتلك مباريات شريفة، أما ما يجري اليوم فليس من الشرف في شيء. والضحية الكبرى لهذا التهارش والافتراس المتبادل ليس إلا الوعي إن شئت، وإن شئت؛ ليس إلا الوطن والسلم الاجتماعي. وكذلك تصنع الأخلاق الحزبية، الأخلاق القائمة على مبدأ (إن لم تكن معي فأنت عدوي)؛ أخلاق التعصب الجاهلي للقبيلة، إذ يرى فيها المرء شرار قومه خيرا من خيار قوم آخرين (بحسب تعبير علي بن الحسين رضي الله عنهما).
وإذا كان المرء يرى شرار قومه خيرا من خيار قوم آخرين؛ فقل على العدل والصدق والرحمة والنزاهة والإحسان السلام! لأن المرء حينئذ لن يوزن بميزان الحق والعدل، بل بميزان الانتماء الحزبي أو الإيديولوجي. يصدر الفعل من فلان فيتغاضى عنه لأنه من (جماعتنا) ولا شك أنه سليم القصد والنية عفا الله عنا وعنه، ويصدر الفعل من فلان الذي (ليس من جماعتنا) فيضخم ويعلن وينشر ويذاع في كل مكان؛ لأنه عدو للحق والحقيقة مغرض أفاك، لعنة الله عليه! وهكذا دواليك.
إن كان القرآن دستورنا فأين نحن من قوله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي}؟ وأين نحن من قوله تعالى: {وجادلهم بالتي هي أحسن}، ومن قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين}؟
إن كان قدوتنا النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله وصفه بأنه على خلق عظيم، وإن كنا نزعم أننا نتبع النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام فإن الله تعالى يقول له: {فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك}.
كان النبي رؤوفا رحيما، وكان يبلغ به الحزن كل مبلغ إن لم يؤمن به من يدعوه ويرشده؛ لما في قلبه من الشفقة بالخلق، والرحمة بالناس، حتى قال له ربه: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا}. يصبره وينهاه أن يهلك نفسه أسفا على الذين لا يؤمنون. وما تأسف صاحب القلب الكبير صلى الله عليه وسلم إلا شفقة ورحمة، وهو الذي أرسل رحمة للعالمين. ويقول له كذلك: {واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون}. كذلكم كان قلب النبي حزينا على أنهم لا يهتدون. ونهاه حتى أن يدعو على قومه فقال: {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم}. أي لا تستعجل لهم بالعذاب. كان من أوصاف النبي الأكرم - الذي نزعم اتباعه - أنه لم يكن: "فاحشا ولا متفحشا"، ولم يكن لعانا، ولم يكن بفظ ولا غليظ.
إن الأخلاق الحقيقية تنبع من الالتزام بالمبدأ الأخلاقي بدون لحاظ الحليف أو الخصم، أخلاق غير مزورة، لا تستعار استعارة، ولا تستخدم شعارا مرفوعا لتبرير الضربات والضربات المقابلة للانتقام والتشفي.
هناك نصوص كثيرة في كتب التراث تربط الأخلاق بالتقوى، وتجعل الأخلاق مفردة تشملها التقوى، فمن ذلك مثلا قول سهل بن عبد الله التستري: "والتقوى ترك كل شيء مذموم، فهو في الأمر ترك التسويف، وفي النهي ترك الفكرة، وفي الآداب مكارم الأخلاق".
وبنحو هذا المعنى وصف الشيخ صالح الحصين يرحمه الله التقوى فوصفها بأنها: "اصطلاح قرآني لا يوجد له مرادف في اللغة العربية، وربما لا يوجد في غيرها من اللغات، فهو يعني درجة عالية من الحساسية الخلقية، بأن يتصرف الإنسان وأوامر الله ونواهيه بين عينيه وأن يشعر بأن الله يراقبه في تصرفه ويراه، وأن الله إليه المآب والمصير".
ليت شعري: أين هاتيك الحساسية الأخلاقية من واقع حياتنا أولاً؟ ثم أين هي في خلافاتنا الفكرية ثانيا