كافة الحقائق التاريخية والتقارير الاقتصادية تؤكد وجود علاقة وطيدة بين نسبة تدفق استثمارات القطاع الخاص ومعدلات النمو الاقتصادي، لترتفع هذه المعدلات كلما زادت نسبة تدفق الاستثمارات، ويتراجع النمو كلما انخفضت نسبة مشاركة القطاع الخاص في الاستثمار.
ونظراً لأن الاستثمار، بشقيه الوطني والأجنبي، يعتبر جزءاً لا يتجزأ من سعي القطاع الخاص لتنمية موارده الذاتية وزيادة قدراته التنافسية، فإن حصيلة النمو الاقتصادي ستتأثر سلباً لدى تراجع نسبة تدفق هذه الاستثمارات إلى أسواق الدولة المستهدفة، وذلك نتيجةً لانخفاض القيمة المضافة المحلية، وزيادة وتيرة البطالة، واختلال الميزان التجاري، وتفاقم عبء الدين العام.
والدليل على ذلك أنه على الرغم من زيادة تدفقات الاستثمار الأجنبي الإجمالي في العالم بنسبة 36% خلال عام 2015، لتفوق قيمتها 1.7 تريليون دولار، وهو أعلى مستوى لها منذ الأزمة المالية العالمية في 2008، إلا أن قيمة تدفق هذه الاستثمارات في جميع الدول العربية انخفضت بنسبة 11 % لتصل إلى حدود 57 مليار دولار، مع انخفاض حصة المملكة بنسبة 4.8 %، من 8 مليارات دولار في 2014 إلى 7.6 مليارات دولار في 2015، وذلك طبقاً لتقرير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية "أونكتاد"، الصادر في نهاية العام الماضي.
كما أشار التقرير إلى أن روسيا، المتمسكة بنظامها الاشتراكي الذي يحتوي على أكبر قدر من الشركات الحكومية، واجهت في 2015 أخطر هبوط بين دول العالم في تدفق الاستثمار الأجنبي ليقل بنسبة 92 % عن العام السابق، بينما تجاوزت هذه التدفقات إلى الدول النامية في قارة آسيا مبلغ 500 مليار دولار وبزيادة نسبتها15 %، وذلك لأن هذه الدول تخلت عن جميع شركاتها الحكومية من خلال خصخصتها ورفع كفاءتها لزيادة مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي.
هذه الإحصاءات تؤكد على أن شركات القطاع الخاص في روسيا الاشتراكية والدول العربية تعاني اليوم من منافسة الشركات الحكومية، التي تستنزف موارد الخزينة المالية لتصنيع منتجاتها وتوفير خدماتها بكفاءة متدنية ومخاطر عالية، مع استئثارها بحصةٍ كبيرة من الأسواق المحلية على حساب شركات القطاع الخاص، دون تقيدها بمبادئ اقتصاد السوق وأحكام التجارة الحرة. وهذا بدوره أدى إلى هروب رؤوس الأموال الوطنية، وأسهم في تراجع عدد الشركات الأجنبية العاملة في القطاع الخاص من 7423 شركة في 2014 إلى 6109 شركة في 2015، فتقلصت حصة المنطقة العربية بنسبة 30 % من إجمالي عدد الشركات الأجنبية المستثمرة خارج حدودها، وذلك طبقاً لتقرير مناخ الاستثمار في الدول العربية، الصادر في يوليو 2015 عن مؤسسة ضمان الاستثمار وائتمان الصادرات "ضمان".
بعد سقوط الأنظمة الاشتراكية نتيجة تفاقم أضرارها الاقتصادية وسوء أدائها وضعف نتائجها، حرصت الدول على إغلاق شركاتها الحكومية لتخفيف الأعباء المالية الملقاة على خزينة الدولة، والاستعاضة عنها بتشجيع القطاع الخاص لضخ استثماراته وإنشاء مزيد من شركاته، لكونها الطريقة المثالية اللازمة لدفع عجلة النمو وتنمية الموارد وتوليد الوظائف وتحسين الأداء.
ومع انخفاض أسعار النفط وتراجع مواردنا المالية ولجوئنا للاقتراض من المؤسسات المالية، أصبح لزاماً علينا اليوم تشجيع استثمارات القطاع الخاص ودعمها بكافة الوسائل لتصبح شركاته جوهرة اقتصادنا الوطني وملاذنا التنموي الآمن، من خلال تنفيذ الخطوات الرئيسية التالية:
أولاً: مطالبة القطاع الحكومي بأن يكون شريكاً للقطاع الخاص وليس منافساً له، لكي تقفز مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي من 58.7 % في العام الحالي إلى 70 % خلال 5 سنوات. ولن تتحقق هذه الخطوة إلا بعد التخصيص الكامل لجميع الشركات الحكومية، ومنعها من إنشاء شركات جديدة لمنافسة الشركات المماثلة في القطاع الخاص. وهذا يتماشى مع التزامنا بمبادئ اقتصاد السوق والتجارة الحرة، التي تفتخر بها المملكة وتمارسها منذ تأسيسها وتسعى لتطبيقها من خلال تشجيع استثمارات القطاع الخاص في المشاريع التنموية المجدية.
ثانياً: ضرورة تعديل قرارات توطين الوظائف وتقويم أهدافها، لتصبح متطلبا فعليا يوجب الضرورة ولا يخضع للإلزامية. ولن تتحقق هذه الخطوة إلا بعد تطويع مخرجات التعليم وتوجيه مساراتها لسد العجز في وظائف القطاع الخاص، مع ضرورة تنظيم العلاقة التعاقدية بين مؤسسة التدريب المهني والتعليم الفني والهيئة العامة للاستثمار لتحفيز المستثمرين على استقطاب الخريجين وتدريبهم على الوظائف الفنية والمهنية، للالتحاق بالمشاريع الاستثمارية، تنفيذاً لأحكام توطين الوظائف المعتمدة في الاتفاقات الدولية.
ثالثاً: تعديل نظام المشتريات الحكومية ليستفيد قطاعنا الخاص من الاستثناء المميز الذي اكتسبناه لدى انضمامنا لمنظمة التجارة العالمية، والذي منح قطاعنا الحكومي أحقية شراء كامل احتياجاته من المنتجات والخدمات الوطنية مباشرة، وتفضيلها على منافستها الأجنبية من واقع التزامها بالمواصفات السعودية وليس بمدى ارتفاع أو انخفاض أسعارها. وهذه الخطوة لن تتحقق إلا إذا مارسنا حقنا كدولة نامية، مثل تايلاند وكوريا الجنوبية وهونج كونج وسنغافورة وماليزيا والبرازيل، التي أصبحت تشكل اليوم 28 % من اقتصاد العالم، نتيجة تشجيع هذه الدول لقطاعها الخاص وإلغاء شركاتها الحكومية، لترتفع قيمة تدفق الاستثمارات في أسواقها إلى 32% من قيمة الاستثمار الأجنبي العالمي، ولتصبح معقلا لصناعة أكثر من 67 % من أجهزة تقنية المعلومات، و55 % من قطع غيار السيارات، و33 % من محطات توليد الكهرباء وتحلية المياه.
إذا أردنا حقاً تنمية مواردنا وتنويع اقتصادنا وتوطين وظائفنا علينا أن نبدأ فوراً بتشجيع قطاعنا الخاص والتوقف عن منافسته بواسطة شركات القطاع الحكومي.