يكثر الحديث هذه الأيام عن الاستراتيجية الروسية في سورية والتي تقوم على 3 نقاط أساسية: قطع "إعزاز" عن محيطها لإلغاء فكرة الممرات الآمنة من التداول، وقطع الطريق على أي محاولات تركية مباشرة أو غير مباشرة لفرض أمر واقع داخل الأراضي السورية، والسيطرة على الحدود السورية الأردنية لإنهاء أي فكرة لتغلغل عربي من الجنوب، وتفصيل معارضة تتناسب مع مقاس النظام، والوصول معها لشكل من أشكال الحل السياسي.
هذه الاستراتيجية التي تبدو بسيطة ومحددة ومحصورة بنقاط مباشرة، هي في حقيقتها صيغة مواجهة لاستراتيجيات أخرى جرى الحديث عنها في الأسابيع والأشهر السابقة، فالقصف في الشمال وإكمال ما بدأته قوات سورية الديموقراطية، وإطباق السيطرة على محيط "إعزاز" يعني مجابهة الاستراتيجية التركية التي لم يتوقف الحديث عنها منذ 3 سنوات، ولم تتوقف تركيا نفسها عن المطالبة بها علناً، والتي تقوم أيضاً على خلق مناطق آمنة يمكن أن تقوم بها تجمعات للاجئين السوريين داخل الأراضي السورية بدلاً من الأراضي التركية، وعلى فرض ممرات آمنة من جميع الأراضي السورية باتجاه هذه المناطق، وفرض منطقة حظر طيران لتحقيق النقطتين السابقتين.
وهذه الاستراتيجية التي تصطدم بعقبات صغيرة، عرقلتها العقبة الكبيرة وهي رفض الولايات المتحدة التي لا ترى في الاستراتيجية التركية أهداف محاربة النظام السوري أو تنظيم داعش، بل مجابهة الاستراتيجية الكردية وقطع الطريق عليها، والاستراتيجية الكردية بدورها تقوم على فرض أمر واقع عسكرياً وميدانياً، والاستفادة لأقصى درجة من تقاطع الاستراتيجيات على الأرض السورية، والسيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي للتفاوض عليها لاحقاً.
في الجنوب تقوم الاستراتيجية الروسية على مجابهة الاستراتيجية العربية بالتغلغل البري في سورية من جهة الأردن، بشكل غير مباشر مرحلياً، وبشكل مباشر في لحظة مناسبة، والتعاون مع باقي الدول العربية التي تقوم استراتيجيتها على التعاون والتنسيق لمكافحة الإرهاب في العالم الإسلامي والمنطقة.
والنقطة الأساسية أيضاً في هذه الاستراتيجية هي عرقلة الاستراتيجية الإيرانية التي تشكل في سورية امتداداً للاستراتيجية الإيرانية في عموم المنطقة العربية، والتي تقوم على السيطرة على أكبر قدر ممكن من المناطق بالتواجد المباشر (سورية والعراق) أو بخلق حلفاء تابعين (اليمن ولبنان) أو خلق أذرع خفية وخلايا نائمة (في مناطق ودول كثيرة)، وكل ذلك لتحقيق الهدف العريض والكبير: تصدير الثورة.
النقطة الثالثة من الاستراتيجية الروسية المتعلقة بتفصيل وتصنيع معارضة بقياس محدد ووضعها في الصورة التي سيتم التقاطها للحظة الوصول لحل سياسي، هي مجابهة الاستراتيجية الأوروبية (الألمانية الفرنسية بشكل رئيسي) التي تقوم على توحيد المعارضة والوصول لتشكيل جسم سياسي منها قادر على الوصول إلى حل سياسي عبر التفاوض مع نظام الأسد، وبهذه الاستراتيجية تقطع روسيا الطريق على الجهود الأوروبية المعبّر عنها أممياً، وتلغي احتمال تقاسم السلطة بشكل حقيقي، وتغيير بنية النظام في سورية.
الولايات المتحدة تبدو وكأن استراتيجيتها هي المراقبة والترفع عن هذه الصغائر مع التركيز على محاربة تنظيم داعش، وهي في الحقيقة تملك استراتيجية أخرى قوامها الرضى عن كل الاستراتيجيات السابقة، بل والاستمتاع بتصارعها وتضاربها!
هذه البقعة الصغيرة الجريحة من العالم والتي تحولت إلى ملعب لاستراتيجيات العالم، يدفع أهلها من دمائهم وحياتهم أثمان تحقيق هذه الاستراتيجيات كل يوم، فالقصف الروسي في الشمال والجنوب والقصف الأميركي في الشرق، وقصف النظام في الوسط، والقوات الإيرانية في الجنوب، وقوات حزب الله والميليشيات العراقية والشيشانية والأفغانية في مناطق متفرقة هنا وهناك، وقوات داعش في الشرق والشمال، والنصرة في الشمال والشمال الغربي والجنوب.
حتى الآن لا يبدو أن السلفادور وهندوراس لديهما استراتيجية في سورية، ولم تخلقا حتى الآن أذرعا لتنفيذ استراتيجيتهما، وكدت أضيف أوزبكستان لولا أنها تحاول أيضاً أن يكون لها استراتيجية في سورية فقد دعت لمؤتمرين حضرهما سوريون خلال العام الماضي.
عشرات الاستراتيجيات المتصارعة على هذه الأرض المسكينة، فيما الاستراتيجية الكبرى التي تدور كل هذه الاستراتيجيات حولها وبجوارها، تجابهها وتعيقها وتغلفها وتحتمي باسمها، ليست بهذا التعقيد، فهي أبسط من ذلك بكثير، وهي استراتيجية كبرى تقوم على كلمة واحدة، خرج الشباب السوريون وصرخوا بها في وسط الشارع: حرية.