كانتونات ضيقة ومعازل خانقة يقيمها البعض لأنفسهم وللآخرين. لا يستطيع أن يتحدث أو يتحاور إلا في ظلال لونية محدّدة معينة، مفروزة جيدا حتى لا تتداخل عناصر من الشبهة وينسلّ الغريب بقطعة لونية مختلفة تعكّر الصفاء وتخلط الأوراق وتذوب السطور فيما بينها ملغية المسافات وكاشفة للمحظور بانعدام التفريق بين الأبيض والأسود، إذْ لا وجود للعالم خارج هذيْن اللوني، وسواهما باطل وقبض ريح، ولا فائدة ترجى منه. فلماذا يبقى بيننا ونتيح له فرصة الكلام ونمنحه عافية الإصغاء ونسمّم آذاننا ونرمي بالقذى إلى عيوننا. لماذا لا يبقى في النبذ، بعلامة يدركها الجميع؛ فكم تشابَهَ البقرُ ووقع الخلط غير المحمود؟!

هذه المساحات التي نقيمها في عقولنا ونحدّد بها أنفسنا والآخرين، تدخلنا في قوالب جامدة صلبة، عصيّة على الكسر وعلى الاقتلاع؛ تغدو لنا توابيت وقبورا تحبسنا عن نسمة الهواء تهبّ من جهات الأرض الأربع، وتعزلنا عن خضرة مروجٍ يمكن أن تمنحنا طاقة وزادا يعيننا، ويصوّب نظرتَنا، ويحمل عنّا ما لا نستطيع حملَه أو احتماله. ثمّة أبواب واسعة ونوافذ لا يحصيها العدّ مبذولة. فلماذا نأمن إلى ألفة القوالب والمرايا التي ذهب زئبقُها فما عدنا نبصر فيها إلا الأوهام وما نحسبه ذواتا لنا، وما هي، عند التدقيق وإمعان التدبّر، إلا أشباح وخيالات يكذّبها الواقع.. ما هي إلا سراب خلبي لا يغني. لكننا نمعن في التصديق بما نظنّه الحقيقة الوحيدة الماثلة التي لا تحتاج إلى برهان أو دليل أو شاهد؛ فنحن الشاهد والبرهان والدليل. ومن له رأي آخر يُفرَد إفراد البعير الأجرب. وما أكثر "البعارين الجرباء" المفردة في صحرائنا العربية القاحلة!

يأسرنا اللون الواحد، ننسج منه خيمتنا وندعو الاتباع إلى الخباء.. إلى الاختباء في صيغة الأمن والطمأنينة خشية الزيغ والانزلاق إلى بقاعٍ موحلة بالقلق وما يطير له الفؤاد.

يطيب لنا النوم أو التناوم على مخدّة اللون الواحد.. الرأي الواحد، والويل لمن أراد التنبيه ودقّ النغمة المختلفة. وحتى لو أراد فالمهمّة عسيرة وشاقّة لتفتيح ثغرة في الوعي، وإنْ كان باللين أو بالهدير أو بصرامة؛ فثمة وقرٌ في الآذان ونعاسٌ يضرب على العيون. وعبثا تكون المحاولة، واستحالة أنْ توقظ متظاهرا بالنوم وأولاك ظهره. فحكمة الشعوب تتحقّق في هذه الحالة: (تستطيع أنْ توقظ النائم، لكن من يتظاهر بالنوم لا يمكنك إيقاظه).. وبفرض أن المعجزة حدثت، وانشقّت الخيمة وأعاروك الانتباه والأذن وسعة الصدر والتقبّل. فهل تنجاب سماء الظنون والآراء المسبقة المشبعة بوباء التصنيف والخانات المعدّة سلفا لتقصير القامات ونزع هالة وجاهة الرأي الآخر المختلف.. وهل هناك إمكان لحوار هادئ (يُسمع بغير دم) ولا نفير لحرب لا بُدّ أن تسفر عن مهزوم ومنتصر، غالب ومغلوب، مرتفع الهامة ومطأطئها يجرّ أذيال الخيبة والانكسار الماحق.

متى نخرج من وباء التصنيف وأحادية القطب.. متى نسمح لبعضنا بالاختلاف والحوار دون أن يكون في ذلك نقيصة ولا عيب ولا خدش من "مقامنا العالي".. متى يحدث ذلك للخروج من (الجهل المقنّن)؟.