في غضون هذه السنوات، وفي خضم الأحداث الدائرة في العراق وسورية، حفلت مواقع التواصل الاجتماعي، وبعض من وسائل الإعلام بمقاطع في غاية الدموية، والبشاعة. مقاطع مرعبة ذات طابع هوليوودي بشكل لا يكاد يصدّق. هذه المقاطع أو المشاهد تتعارض تماما مع النفس البشرية، وما تكتنزه من مشاعر تمجّ مثل هذه الأعمال، فضلا عن أن تقدم عليها! أعناق تُضرب، وأشلاء تُمزق، وأعضاء تُقطّع، وعذابات لا تنتهي بحق المُعذَّبين تقابلها ابتسامات المعذِّبين! وفضلا عن كل ذلك فإن هذه الأفعال الشنيعة يتم تديينها، أو تغطيتها بغلاف ديني يحمل مغازي وأبعادا طائفية، حيث يكون دوما ضرب أعناق الضحايا مصحوبا بعبارات دينية، من قبيل: الله أكبر، أو بسم الله الرحمن الرحيم، كما يتم رمي الضحية إن كان شيعيا بألفاظ نابية، أو اتهامه بالمجوسية، أما إن كان الضحية سنيا فتُستخدم ألفاظ ومفاهيم أخرى لا تقل بشاعة عن ألفاظ الطرف الأول من قبيل: الوهابية أو لعن بعض الصحابة، رضوان الله عليهم جميعا. كل هذه المجازر الصماء التي تقيمها هذه العصابات بحق المختلفين عنها مذهبيا، يتم تديينها، بحيث تُستدعى مآسي التاريخ وثاراته، ونكباته بصورة تبريرية مُرادها وغايتها في النهاية إعطاء شرعية لما تفعله هذه العصابات المجرمة من جرائم.

والحال أن التعصب المذهبي في التاريخ الإسلامي لم يكن وليد اللحظة، بل هو موجود في الواقع التاريخي لأمتنا، وسجّلته المصادر التاريخية بعناية، فمن يقرأ على سبيل المثال الواقع الاجتماعي في مدينة بغداد إبان الخلافة العباسية، خلال القرنين الرابع والخامس الهجريين، سيجد أن تلكم المصادر قد تحدثت ضمن حوادث هذين القرنين عن صور عديدة من الحروب المذهبية داخل مجتمع مدينة بغداد، منها على سبيل المثال ما حدث سنة 327 بين الشيعة وحنابلة بغداد، والذي خلّف عددا من القتلى، والجرحى، وما حدث سنة 363 بين أهل السنة والشيعة، والذي لم يهدأ إلا بعد تدخل عساكر السُلطة القائمة، وعن هذه الفتنة، وبخصوص أتباع المذهبين الذين اشتركوا في تأجيجها، يعلّق الحافظ ابن كثير بقوله: "وكلا الفريقين قليل عقل أو عديمه، بعيد عن السداد"! ولم يكن الأمر محصورا في بغداد فحسب، بل ثمة العديد من الوقائع المذهبية التي روتها المصادر التاريخية، وسجلت تفاصيلها في مدينة واسط بالعراق، ومكة في الحجاز، وحلب في بلاد الشام خلال هذين القرنين.

ولم يتوقف الأمر عند القرنين الرابع والخامس الهجريين، بل إن القرن السادس شهد العديد من الاحترابات الأهلية داخل بعض المدن الإسلامية لأسباب مذهبية وطائفية، منها على سبيل المثال ما شهدته مدينة الري الواقعة في بلاد فارس والتي كانت إذاك ميدانا لصراعات مذهبية ما تلبث أن تنطفئ حتى تندلع مرة أخرى، الأمر الذي أدى إلى تلاشي عمرانها، وتغّير ديموجرافيتها خلال النصف الثاني من القرن السادس، بعد أن كانت موصوفة بالعظمة والضخامة إبان القرون الإسلامية المبكرة، فقد ذكر ياقوت الحموي (ت: 626) أن هذه المدينة في زمنه قد أمست خرابا، إذ كان النصف من سكانها ينتمون إلى أهل السنة والجماعة، في حين كان نصفها الآخر ينتمي إلى المذهب الشيعي الإمامي، فحدثت بينهما حروب قاسية ومستمرة، انتهت بانتهاء الوجود الشيعي، وأصبحت المدينة سنية خالصة، لكن الأمر لم يستمر طويلا، إذ إن أهل السنة أنفسهم كانوا منقسمين إلى شافعية وأحناف، مما أدى إلى وقوع حروب مذهبية بين أتباع هذين المذهبين، آلت في النهاية إلى انتهاء الأحناف، وبذلك خربت أحياء الشيعة والأحناف في الري ولم يبق سوى أحياء الشافعية!

وبلا ريب فإن سياقات الأحداث المذهبية أعلاه خلال القرون الوسيطة، تأتي مختلفة تماما عن سياقات الواقع الراهن من حيث الظروف السياسية والاجتماعية، فضلا عن طبيعة المرحلة التاريخية. فالسياقات الأولى تأتي مندرجة ضمن فضاء معرفي وتاريخي مغاير للفضاء الحالي المحمل بقيم الدولة الوطنية الحديثة، وسيادة القانون، وحق الاختلاف، والتعددية الفكرية، وهذا ما يجعل من الأحداث المذهبية والطائفية الحالية مرهونة الظهور والخفوت بالإرادة السياسية دون غيرها، وعليه فالحل يكمن فقط في الدولة الوطنية بمفاهيمها العصرية، وليس في الدولة ذات الأيديولوجيا العابرة للجغرافيا والتاريخ!