القاعدة، وبعيداً عما يُلحظ من الالتزام الديني لظاهر بعض المنتمين إليها، والمتعاطفين معها في الداخل والخارج هي- في الجانب السياسي العنيف من عملها- من أشد الفتن التي اُبتلي بها المسلمون في الوقت الحاضر، وهي ما تفرع عنها، وسلك مسلكها في برنامجها السياسي، وأسلوب عملها ستقود العالم لا محالة إلى مآسٍ لا يعلم عقباها إلا الله سبحانه وتعالى. وهي وإن كانت موجودة فكراً وممارسة في أمكنة كثيرة من العالم الإسلامي فإنها تنتعش وتزدهر وتسفر عن وجهها الخفي في مناطق الصراع التي علمتنا الأحداث والتجارب أنها كثيراً ما تندسّ بين المتصارعين، ثم لا تلبث أن تخرج من أوساطهم وفي غفلة منهم، لتستولي بطريقة وأخرى على مقاليد الأمور في ميادين الصراع، أو على الأقل تفوز بموضع قدم في أمكنة يصعب زحزحتها عنها إلا بتضحيات كبيرة جداً وغالية الثمن، حدث هذا في أفغانستان في أثناء اقتتال الفرقاء الأفغانيين فيها بعد جلاء قوات الاتحاد السوفيتي عنها تحت مسمى طالبان، وهي وجه من أوجه القاعدة، ونَبْتَة من غرسها، وبعون كبير من أنصارها في أفغانستان وخارجها استطاعت طالبان أن تخرج من بين ظهرانَيْ المتصارعين، وأن تستأثر بالسلطة دونهم بعد أن أفنتهم قتلا وتشريدا، وحظيت طالبان المتحالفة مع القاعدة باعتراف دولي واسع على أمل أن وجودها سيقضي على الصراع والاقتتال بين الفرقاء في أفغانستان، وسيحقق الأمن والاستقرار والوحدة الوطنية لتلك الدولة التي افتقدت إليها منذ سقوط الملكية بها في 1973، ودخول القوات السوفييتية إليها عام 1979. ولكن الذي حصل أن طالبان تمادت في الاغتيالات والقتل والتشريد والإقصاء في أفغانستان، وبالمقابل تمادت القاعدة التي كانت تحظى بدعم طالبان وحمايتها في القيام بتفجيرات مدمرة في السعودية، وفي أمكنة كثيرة من العالم حتى كانت القاضية بتفجيرات 11 سبتمبر2001، وما ترتب على ذلك من احتلال أفغانستان من قبل القوات الأميركية وحلفائها، وإسقاط حكومة طالبان في نوفمبر من العام نفسه، والتضييق على القاعدة وعلى رموزها.

وحدث ذلك في جمهورية مالي الإفريقية بُعيد سقوط حكم معمر القذافي في ليبيا، وارتداد مرتزقته المدججين بالسلاح إلى بلدانهم، ومنها جمهورية مالي التي تعرضت لاجتياح من سَمّوا أنفسهم بالمغاوير، والفوضى التي حصلت في البلاد على أيديهم، وما نتج عنها من ظهور مسلح قوي للقاعدة استطاع السيطرة على تُمْبُكْتُّو العاصمة الإسلامية لإمبراطورية كانت تسمى باسمها (إمبراطورية تُمْبُكْتُّو). وقد شاهدنا جميعا من خلال التلفاز ما أحدثه ذلك التنظيم من تدمير لآثارها ومخطوطاتها وزواياها لولا أن تداركتها فرنسا بعد الله فأنقذت مالي من فتن ومآسٍ ما كان يعلم مداها إلا الله سبحانه وتعالى. وحدث ذلك في ليبيا بعد استفحال الصراع فيها، واستشراء النزاع بين ولاياتها، وفشلها في تشكيل حكومة وحدة وطنية، وسيطرة الإسلاميين على أمكنة كثيرة في ليبيا بما فيها طرابلس العاصمة، وبنغازي وبعض مناطق تصدير النفط الحيوية في سرت وخليج السدرة وراس لانوف، وهي وإن اتّشحت بعباءة داعش، واعترفت بخلافتها فإنها في الأساس نَبْتَة من غرس القاعدة، وخَمِيْرة من عجينتها. وحدث هذا في العراق في أثناء الفوضى والصراع الذي أعقب سقوط حكم صدام حسين وظهور بواكير القاعدة في بلاد الشام والعراق قبل إخماد حركتها على يد صحوات العشائر السنية بمعاونة من القوات الأميركية قبل انسحابها من العراق في عهد الرئيس أوباما، ثم ما تلا ذلك من أحداث هيأت المناخ المناسب للقاعدة أيضاً كي تندسّ بين معتصمي الأنبار السُّنَّة، وبين الجموع الغاضبة في الموصل الذين انتفضوا على حكم المالكي، لتسفر تلك الأحداث عن وجه داعش وخطرها الحقيقي الذي ابتلع ثلث أراضي العراق.

أما في اليمن -وهو حجر الزاوية في هذه المقالة- فإن بواكير وجود القاعدة فيه، ولا سيما في جنوبيِّه فتعود إلى ما قبل تفجير المدمرة يو إس إس كول في خليج عدن في 12 أكتوبر عام 2000، وناقلة النفط الفرنسية Limburg في بحر العرب عام 2008، بل لعل الإسلام السياسي في جنوب اليمن يعود إلى ما قبل الحرب المطالبة بانفصال جنوب اليمن عن شماله في 1994، وما تردّد من أخبار في ذلك الزمن من أن الإسلاميين في حضرموت دعموا الشماليين حفاظا على الوحدة اليمنية من جهة، ونكاية بقادة الحركة الانفصالية في الجنوب من جهة أخرى؛ كونهم بقايا أو فلول الشيوعيين الذين تقلبوا على حكم اليمن الجنوبي منذ استقلاله عن بريطانيا في 3 نوفمبر 1967. وقد لاحظنا في عدد من السنوات بعض تحركات القاعدة في حضرموت وأبْيَن، ومأرب التي شهدت تفجير العديد من أنابيب النفط في 2007، ومقتل 7 من السياح الإسبان بها في 2008، وسائحين بلجيكيين بسائقيهما اليمنيين في العام نفسه، بل إن صنعاء العاصمة لم تكن بمنأى من تفجيرات القاعدة، خصوصا السفارة الأميركية التي تعرضت بعض مبانيها في صنعاء للتفجير في 2008. أما في أثناء الاعتصامات المطالبة بعزل الرئيس على عبدالله صالح، فقد ازداد نشاط القاعدة في أثناء تلك الاعتصامات وبعدها حتى قيل إن المكلا بحضرموت تحوّلت إلى محمية للقاعدة.

وبعد اندلاع عاصفة الحزم، وما تلاها من المعارك الرامية إلى عودة الشرعية والتخلص من الحوثيين وصالح ازداد نفوذ القاعدة في حضرموت وأبْيَن، وأصبحت تهدد ما حققته المقاومة الشرعية المدعومة بقوات التحالف العربي بقيادة السعودية من نجاحات بتحريرها عدن وقاعدة العَنَد في لَحْج وما حولها، حيث تتوارد الأنباء عن هجمات واغتيالات تنفذها القاعدة على الأراضي المحررة في اليمن الجنوبي، مستهدفة بها بعض المنشآت الحيوية في عدن، وبعض رجالاتها البارزين ممن يوالون الشرعية، كذلك عملت القاعدة على تقوية وجودها في زُنْجُبَار (مركز محافظة أبْيَن) وشقراء وخلافهما من المدن والقرى في محافظة أبين، ولا نستبعد وجود تنسيق بينها وبين الرئيس المخلوع علي صالح. لذلك ينبغي أن تكون الأعين مفتوحة على القاعدة وصالح وما يدور بينهما في الخفاء حتى لا يلعب لعبته الخبيثة حينما تبلغ نهايته ونهاية وجوده في اليمن درجة الحلقوم، ويرى أنه لا أمل له في البقاء بأن يسلم ترسانته من الأسلحة وما تحت يديه من المواقع الإستراتيجية للقاعدة، ومن لفّ لفّها فتكون الطامة الكبرى.