بدأت الكتابة في "الوطن" قبل عدة سنوات، تناولت فيها كثيرا من الموضوعات المتنوعة، وخضت كثيرا من التجارب معها، وفرحت بما وصلني من ثناء، واستفدت مما وصلني من نقد، وكأي كاتب وصلني بعض النقد اللاذع وربما المضايقة، ولكن مع كل هذه التجارب؛ فإني لا أقبل لنفسي يوما أن أعترف إلا بفضل "الوطن" التي ساعدتني كثيرا في مساحة الحرية والدعم والوفاء.
واليوم مع آخر مقال لي في "الوطن" بسبب الانتقال لصفحة متخصصة بالقانون في صحيفة الاقتصادية؛ وكجزء من الوفاء رأيت أن أكتب مقالا عن صحيفتي "الوطن" وليس عن أي شيء آخر.
منذ أن بدأت هذه الصحيفة كانت قوية ومثيرة، تبحث عن الخبر المميز والطرح المختلف، نختلف ونتفق مع سياسات "الوطن" أو ما يطرح فيها، ولكن في النهاية؛ الحقيقة أننا نجد في "الوطن" ما لا نجده في غيرها، خصوصا على الصعيد الثقافي والمعرفي.
مرت "الوطن" بمراحل صعود وركود بلا شك؛ إلا أنها برأيي ربما أهم صحيفة تعتني بالرأي الثقافي العميق، بغض النظر عما يطرح فيها نختلف أو نتفق عليه، وهي بلا شك تقود الساحة الثقافية بالطرح النقدي الجريء، وتترك مساحة أيضا لمن يرغب بالرد والنقاش طالما التزم صاحبه بمبادئ الأدب والموضوعية.
هناك الكثير ممن يمتعض ولا يحب النقد الجريء، خصوصا في مجتمع شديد المحافظة كمجتمعنا، إلا أن النقد في النهاية - بغض النظر عن محتواه- هو في الحقيقة أهم طريق للإصلاح ومعرفة الأخطاء، ولا يمكن أن نتصور النهضة والتفوق من دون نقد. ونلاحظ مثلا أن أكثر الشعوب تطورا وتفوقا هي تلك الشعوب التي تقبل النقد وتتفهمه حتى لو خالفته، والسبب باختصار أننا لا يمكن أن نتصور عقلا أن الوصول إلى كشف أخطائنا إلا من خلال النقد.
النقد اللاذع خصوصا مكروه للنفس بالطبع، ولكن في الحقيقة أن النقد اللاذع هو أقصر طريق نحو جذب الانتباه للمشكلة، فهو يعطي صدمة للقراء ويجذب اهتمامهم نحو المشكلة بالرغم أنني لا أمارسه، ولكن خصوصا في المجتمعات التي تقل فيها مستويات الثقافة والمعرفة فإنها فعلا تحتاج للنقد ليصدم العقول بأفكار ورؤى مختلفة تساعد في تحريك الدم الفاسد من قلة الحركة فيها.
لو سُئلت عن أكبر مشكلة ثقافية لدينا فسأقول بلا تردد؛ هي أن التعليم والتأسيس لدينا غالبا يقوم على التلقين ووجوب التسليم بكل ما تبحثه وتقرؤه، ولا يشترط أنك تفهمه وتؤمن به فعلا خصوصا في الدراسات الإنسانية، وهذا ليس مقتصرا على الدراسات غير الأكاديمية، بل حتى كثير من باحثي الدراسات العليا تقوم الدراسات على إثبات صحة معارف وأفكار معينة وليس على البحث الحر والمتسائل الباحث عن الحق والصواب، وبهذه الطريقة أنتجت لنا هذه الدراسات الضخمة مجرد تكرار وإعادة صياغة للأفكار في كثير من البحوث.
أعود وأقول؛ ربما مقالة حرة هنا أو هناك تكون أكثر نفعا وفائدة من كثير من البحوث والدراسات الأكاديمية المستنسِخة لبعضها، فالكاتب المثقف يجد الحرية أكثر في صرح ثقافي كـ"الوطن" منه في كثير من الجامعات.
لا يمكن ولا يُقبل عقلا أن نتطور ونتقدم دون النقد الثقافي، وأنا أتحدث هنا عن النقد المبني على أسس علمية وثقافية عميقة وليس النقد الفارغ من الأسس العلمية الصحيحة، كما لا أقصد النقد اللاذع الذي فيه تجريحا واعتداء على أشخاص أو حتى مؤسسات، مما يُحول الطرح إلى ساحة تعارك وتقاتل.
كثيرا ما يقف أمام النقد الحر كثير من الأفكار والتيارات المحافظة أو المتشددة أحيانا، وربما يستعينون بالعادات القبلية مثلا للرد على النقد أو إيقافه، ولن تتوانى هذه التيارات أيضا عن استخدام الدين في صراعاتها، بالرغم من أن الطرح قد يكون مبنيا على أسس علمية صحيحة ومتوافقة مع المبادئ الشرعية للاجتهاد الشرعي، إلا أن النفس البشرية وخصوصا الأقل معرفة واطلاعا، تحاول البحث عن أي سلاح لإثبات صحة أفكارها ودعاواها، مهما كان مخالفا حتى للأسس العلمية. والخلاصة؛ أننا مهما تضايقنا من النقد، إلا أنه في النهاية مفيد للحراك الثقافي جدا، مهما اختلفنا معه، ولو بقينا على أفكارنا قبل ثلاثين أو أربعين سنة لما تمكنا اليوم من مواكبة العصر والتعايش معه.
أختم مقالتي هذه بأنني فخور بـ"الوطن" كأهم مساندي النقد والثقافة، وفخور أيضا بأنني كتبت فيها يوما ما، وهي جزء مني ولن أتحمل البعد عنها، وسأعود إليها مهما طال الزمن بإذن الله.