في وصف الصدمة وتوصيف وقعها على النفس، لا أعتقد أنني قرأت في حياتي قطعة "موسيقية" من جماليات اللغة، كما قرأتها لأستاذنا الكبير، عبدالله الغذامي، وهو يصف الدقيقة الأولى وتفاصيل اليوم الأول لقصته الحزينة مع المرض. في الجملة الأولى يقول: استقبلت خبر مرضي وحيدا وكأني في يوم البعث. يصف الغذامي كيف تعمد أن يذهب لموعده "اللندني" بمفرده. كيف استقبل الجملة التاريخية من فم الطبيب الأيرلندي. كيف غفا لدقيقة وهو يسبح في ملكوت الخيال للقادم المجهول. كيف عاد لزوجته ثم بكى وهو ينبئها بالخبر الصاعقة. كيف استيقظ ذلك الإيمان المخبوء بدواخله ثم تتحول القصة إلى حفلة شخصية وعائلية. كيف تحول الخبر إلى أعظم هدية عيد ميلاد؟.

وبالضبط، أشعر وأنا أقرأ القصة أن الغذامي ينثر كلماته مثل شلال ماء دافئ يصب في مسبح واسع مكشوف، ولكن على سفح شتوي في جبال الألب. سأطلق عليه "مملكة اللغة"، فما هي ظروف نشأة وحياة هذه المملكة. من حسن حظ الغذامي أنه درس الفتوحات الأولى لبناء هذه المملكة في معهد علمي محافظ في عنيزة، ويومها كان المعهد العلمي نواة جامعة. لكنه، وفيما بعد، لم "يتقولب" تحت ضغط مقاومة التغيير والتحديث في أنساق اللغة وفضاءاتها الواسعة، كما هو السائد في صرامة الخطاب الديني حيث هو مدرسته الأولى في عالم اللغة. لم يستسلم قاموس الغذامي لقواعد مدرسته الأولى التي لا ترى في اللغة العربية إلا شيئا يشبه "المحيط العالمي المتجمد". برهن بعد هذا المشوار الطويل أن في جوف هذا المحيط لهذه اللغة الخالدة ألف قاموس مجهول لم يفتح بعد. برهن بعد هذا المشوار أيضا أن "الحداثة" صيرورة حتمية، بل جسر مفتوح إلى حياة اللغة وتجددها وتحريرها من قوالب الثلج المعلبة. برهن الغذامي على أن اللغة كائن حي فلا يشبه الإنسان من بين كل مخلوقاته عز في علاه سوى المخلوق الحي المسمى مجازا باللغة. ولأن اللغة هي "الإنسان" فلن تظل عارية بدائية مثلما كان الإنسان الأول القديم، بل هي مثله في الارتقاء والتبدل والتطور وفي المنافسة على مشاريع التحديث بالحذف والإضافة. بعد أربعين سنة من حمله لواء الحداثة، برهن عبدالله الغذامي على أنه خدم لغته ولغة أهله ثقافة وتحليلا أضعاف ما خدمها كل الذين رفعوا حرابهم في وجهه. برهن أخيرا على أن تلك المعارك المنقرضة لم تكن منهم سوى معارك وجل وخوف أن يصبحوا بعدها بلا وظيفة حين يفتقدون المفاتيح التي يفتحون بها كنوز هذه اللغة، وحين لا يملكون الأدوات التي يغوصون بها إلى أحشاء الدر في جوف المحيط اللغوي. أستاذي الكبير عبدالله الغذامي: بإرادة الله ومشيئته ستنتصر على المرض وستقوم منه أشد وألين، وبفضله تعالى ستعود للحياة حياًّ كما أنت راكض فوق الدقيقة الأولى التي كنت فيها وحيدا كيوم البعث. ستكون تلك الدقيقة معركة قديمة منقرضة تضاف لأرشيفك من المعارك.