هناك ظواهر تململ لدى العموم في متابعة التطورات التي تعيشها المنطقة العربية، من اليمن إلى العراق وسورية وليبيا، بالإضافة إلى محاربة الإرهاب الداخلي على امتداد الوطن العربي. فالجميع ينتظر الخروج من هذه النزاعات أو الأزمات خلال أشهر قليلة، أو عملية قيصرية تجري هنا أو هناك. وذلك يعكس مدى عدم إدراك المجتمعات للقرارات الاستراتيجية للقيادة.

أولا، إن هذه النزاعات لم تكن خيارا للدول العربية، بل فرضت عليها نتيجة التدخلات العميقة في دولها ومجتمعاتها ومحاولات قلب الموازين لجهة تغيير هوية هذه الدول واستتباعها وجعلها بؤرة توتّر دائم تستنزف الدول العربية المستقرة، وبالذات دول مجلس التعاون الخليجي.

ثانيا، أعتقد أن دول المنطقة أعطت الدبلوماسية وقتا طويلا جدا، وربما أكثر من اللازم لحلّ المسائل بالطرق الدبلوماسية، في حين كانت إيران تزداد في التوغّل وتسخين النزاعات من كل اتجاه، مما جعلها تعتقد أن الخواء الاستراتيجي العربي قدر وليس ظرفا طارئا.

ثالثا، جاء الحزم بمثابة صدمة مباغتة وغير متوقعة، وإلى حدّ بعيد أفسدت كل المخططات الإيرانية في المنطقة التي كانت تعاني صدمة سقوط العراق على يد داعش بعد أحد عشر عاما من التفرد الإيراني في مقدرات العراق. ونستطيع القول إن سقوط الموصل بالنسبة لإيران يشبه هزيمة الخامس من "يونيو" عام 67 بالنسبة للعرب.

رافقت عملية الحزم تطورات سياسية استراتيجية عربية للمرة الأولى منذ مؤتمر الخرطوم عام 68، يوم وقف الراحل الكبير الملك فيصل بن عبدالعزيز إلى جانب مصر، متجاوزا الخلافات القديمة ومعلنا تقديم الدعم الكامل لاستعادة القوات المسلحة المصرية قوتها وقدرتها على رد العدوان. ثم جاء قرار الحزم والتحالف العربي من عشر دول عربية بقيادة السعودية ليكون بمثابة عودة الأمل إلى العمل العربي المشترك مع ما رافقه من حديث عن قوات عربية وإسلامية مشتركة لمواجهة الإرهاب.

إن خلاصة القول هو أننا وللمرة الأولى منذ سنوات طوال ندخل في مرحلة الامتلاء الاستراتيجي على مستوى القيادة، في حين أننا لا نزال في مرحلة الخواء الاستراتيجي على مستوى النخبة التي لا تزال تناقش التطورات على قاعدة الخطأ والصواب وبمعايير قديمة تعود إلى زمن التراخي والضياع، أي أنه لا وجود لحالة نخبوية استراتيجية باستثناء بعض المفكرين والكتّاب القلائل.

إن بناء ثقافة استراتيجية يقوم على الصبر الاستراتيجي، أي أن تحقيق الأهداف يحتاج إلى خطط ودراسات وأبحاث وتأملات واستشرافات بعيدة المدى تمتد لأجيال، وهذا ما هو غير متوفر لدى النخبة الآن.

وإننا نقرأ في كتاب الخارج وإنجازاته دون أن نشرح كيف وصلت تلك الدول إلى ما هي عليه الآن من قوة ومن أزمات، وكيف أن شعوبها تمتلك ثقافة الصبر الاستراتيجي.

لا يتحدث أحد الآن عن الولايات المتحدة التي لم تصدر منذ ست سنوات موازنة حكومية مالية، وهي تصرف على أساس الموازنات القديمة. ويدرك الشعب الأميركي أن ذلك في مصلحة الاقتصاد الأميركي وإن كان على حساب بعض الخدمات، في حين تتحرك الاعتراضات في مجتمعاتنا من أجل المطالبة ببعض الخدمات على حساب الاستراتيجيات الاقتصادية والمالية، لأننا لا نملك ثقافة الصبر الاستراتيجي.

إن انعدام هذه الثقافة لا يقتصر على النخب الثقافية، بل يشمل أيضا القطاع الخاص الذي تعوّد على الربح السريع أو على تراكم الأرباح، بمعزل عن الاستراتيجيات الطويلة المدى التي تحفظ الإنتاج والمنافسة على أسس سوية تعود بالنفع العام على الدولة والمستثمر والمستهلك في آن، بما هم وحدة مترابطة يجب أن تكون في حالة من التوازن على الدوام. وعلى سبيل المثال، تتعاظم حالات الاعتراض في بعض المجتمعات الكبيرة كمصر، حيث هناك عدم وجود توازن بين مثلث الدولة والقطاع الخاص والمجتمع. وهي تسعى الآن إلى بناء مجتمع لديه القدرة على الصبر الاستراتيجي، وهذه العملية غير مضمونة النتائج حتى الآن.

إن تحديات المجتمعات العربية الآن هي القضاء على آثار زمن الخواء الاستراتيجي الذي تحوّل إلى ثقافة عامة، وذلك بسبب ما كنا عليه من ضعف وتفكك وخلافات وتلهٍّ بالمناكفات. الآن لا بد من تعميق ثقافة الحزم الاستراتيجي وعودة الأمل من خلال ثقافة الصبر الاستراتيجي.