من هذا المنبر لصحيفة الوطن السعودية أطلقت صرخة "اهدموا الفكر المتطرف قبل أن يهدم إنسانيتا" في تاريخ 25/ 03/ 2013، وقلت حينها: "لا نستطيع أن نقول عن متطرفي هذا الزمان بأنهم فئة، فهم ظاهرة واسعة الانتشار، ولهم منابر وشاشات ومناصب وتمويل من أفراد ودول! وللتمويه أطلق الجزارون على أنفسهم ألقابا لا يستحقونها "عالم وشيخ ومفت"، ووزعوا فتاوى التفرقة والكراهية، بل والقتل في كل اتجاه، وأصبح لهم أتباع ومحبون ومريدون استغلوهم شر استغلال وأضلوهم، معتمدين على صغر سن أو جهل أو قلة علم التابعين لهم، فيحقنونهم من خلال إثارة الغرائز، ويبنون سدا منيعا من الصلب حول عقولهم، فقتلوا وذبحوا ونحروا ودمروا وسرقوا باسم الدين! ولم يكتفوا بذلك، بل نجد منهم من يقوم على سرقات ممنهجة للآثار أو تحطيمها!"، واليوم وبعد أن وجدت أن المعاناة ما زالت قائمة أضيف إلى مقالتي معلومات إضافية مما قرأت، أجد أنها قد تفيد في محاربة هذا الفكر الإجرامي.

كما يعتبر الكيان الصهيوني نفسه أنه شعب الله المختار على خلفية دينية، فإن أصحاب الفكر التكفيري يعتبرون أنفسهم الفئة التي تمتلك الحقيقة وعليه نصبت نفسها على أنها المخلص للبشرية من الأوثان والكفر حسب معايير وضعت لها من شياطين الإنس، معايير سلخت من مسارها السليم ثم خيطت على شكل رداء ديني شكّل يوتوبيا استثنائية للتوحش، قد تراه الضحية ولكن بعد التحكم تكون قد أصبحت في وضع التشكك وعدم التصديق، بل النفي حتى تصل إلى أن تؤمن بـأن الوحشية ليست سوى سبيل للخلاص والتطهر!

وقد شرحت في مقالات سابقة بعض الطرق التي تستخدم من قبل هؤلاء القتلة في التحكم في العقل البشري على شكل فردي أو جمعي، أما اليوم فسوف أضيف تقنية قد تكون قديمة من حيث إنها استخدمت كوسيلة للتعذيب أو الاستجواب من قبل المخابرات الأجنبية، ولكن ما يقوم به القتلة المستترون خلف الدين والتدين يشبه ذلك تقريبا، تسمى هذه الطريقة "Gaslight Effect" بمعنى تأثير ضوء الغاز نسبة إلى أول ما ظهرت هذه الطريقة في التحكم في العقل البشري والتي كانت في "Gaslight" الفيلم الأميركي القديم الذي أنتج عام 1944، يقوم فيه الزوج المعتدي على التحكم بالزوجة الضحية من خلال غرس أفكار مغايرة للواقع في عقلها، لدرجة أن تشعر بالقلق الشديد والارتباك حتى وصل الأمر بها إلى الشك في قواها العقلية وقدرتها على إصدار أحكام صائبة أو قرارات سليمة.

الإجابة عن سؤال لماذا وقع الكثيرون في المصيدة؟ لأن هذا الفكر الشيطاني استخدم هذه التقنية ضمن مجموعة أخرى، مفعلا وبمهنية شديدة جهاز إعلامي لتسويق ودعم أفكاره، وبذلك تمكن من حجب المعلومات الصحيحة وبث بدلا عنها المعلومات الخاطئة أو المفبركة، أو قص بعضها من سياقها الأصلي ومن ثم لصقها في إطار مغاير تماما للأصل والواقع! طريقة تستغرق فترة طويلة من الزمن، لا يهم فنفسهم كان طويلا والمجال أمامهم كان مفتوحا للثقة التي كانت ممنوحة لهم، أدت في نهاية المطاف إلى تقويض الاستقرار النفسي في الضحايا وسلخهم من الهوية بخلق عدم توازن جعلهم بحاجة إلى الاعتماد على الجناة لاستعادة الشعور بالأمن والأمان! لقد كان سلخا بطيئا عن المجتمع والأسرة، عن الإخوة والأصدقاء، عن الوالدين، مع تكرار الغزو الفكري من المعلومات المراد بها التحكم "غسيل الدماغ"، حيث تدخل اللاوعي ببطء، ولكن تستحوذ عليه ويصعب التوصل إليها لإصلاحها، لأن الضحية ترفض وتنفي، بل تدافع وأحيانا بشراسة، ولو استمر الهجوم الخفي تدخل الضحية مرحلة الاكتئاب وتبحث عن طرق الخلاص، وللتحايل على فكرة الانتحار تحول إلى مسار التفجير الانتحاري لتأخذ معها آخرين كي تتطهر بهم وتنتقل إلى مرحلة الراحة الأبدية!

من خلق الخوف من كل شيء، لأنه ذلك سيؤدي إلى جهنم، يتم التحكم والسيطرة، يجسد هذا الخوف على شكل مؤسسات أو أفراد أو سلوكيات أو مدارس فكرية حتى يصبح كل آخر هو العدو المتربص والحائل بينهم وبين الجنة، ولذا وجب التخلص منه بأي طريقة، ولذا تصبح الغاية النبيلة، حسب معاييرهم، تبرر الوسيلة! ومن يقف في طريقهم يتهم بالمتآمر ويشكل تهديدا للدين والحياة الأبدية، ويجب أن يطارد ويهدد لفرض نموذجهم في الحياة والحكم المثالي الذي يقدم على أنه الطريق للنجاة، وتتقبله الضحايا حتى المغيبة جزئيا وتسانده بالدعم المالي على شكل مساعدات لضحايا الحروب للتطهر، دون مساءلة أو محاسبة أو تدقيق لأنهم يريدون أن يصدقوا ما يقال لهم، وطالما هنالك من يستطيع أن يوفر عنهم المجهود لماذا التتبع أو التقصي، فليس ذنبهم أن من ائتمنوا على هذا المال قدموه للجماعات الإرهابية، رغم تنبيه الدولة ورغم تراكم الأدلة الدامغة على المسارات التي انتهى إليها كثير من التبرعات استمرت الشحاتة باسم الضحايا واستمر الصنبور في إغداق المادة الحيوية لهؤلاء القتلة تأييدا مستترا للتوحش والهمجية بثياب الفضيلة، جرائم ترتكب ودماء تسيل باسم التطهر والتعاون والتعاطف! إنها يوتوبيا استثنائية، بل فوق الاستثنائية لمدارس التوحش وأعداء الدين والبشرية، وسيستمرون في عصرنا إلى آخر نقطة من دمائنا.

إن عرفنا الداء فقد عرفنا الدواء، فلنفعّل العقول ولنشحذ الهمم لإيجاد الترياق اللازم لمواجهة دوامة العنف وإيقافها، وهذا يتطلب منا جميعا إعادة برمجة ما تم التلاعب به، وكم كبير من الصبر، ولأن التحدي كبير فلتكن الإرادة أكبر، وهذا ليس إلاّ للخروج بأقل قدر من الخسائر التي طالت أمّتنا وشوهت صورتنا أمام أنفسنا قبل العالم من حولنا، بل وسلبتنا القيم الأساسية؛ المحبة والتسامح والإخاء، إنه حقنا في الدين... حقنا في الإنسانية.... حقنا في الحياة.