جلست القرفصاء أمام بسطة لبيع الكتب المستعملة في ليلة ربيعية من ليال مدينة جدة، قلبت في مائدة الكتب المستلقية على سماط أخضر، وقعت عيني على بعض الأعداد القديمة لمجلة العربي، وإلى جوارها كتاب من الحجم الصغير، لمحت على غلافه اسم عسير وبعض المناطق الأخرى، نحيت أعداد المجلة والكتاب جانبا دون أن أتفحص محتواه مكتفيا بعنوانه، ثم أخذت أقلب ثانية في الكتب حتى جمعت منها ما طاب لي، وتوجهت إلى البائع أسأل عن قيمتها، تفاوضنا قليلا ثم توصلنا إلى سعر يرضينا جميعا، دفعت له الثمن وغادرت المكان محملا بمشترياتي من الكتب.
بحث عن المؤلف
عند عودتي إلى أبها أخذت أقلب في حصاد السفر فكان أول ما طالعني بينها كتاب "جولة في ربوع المملكة. غامد وزهران، عسير، بيشة وشهران، نجران وقحطان "وبرغم أهمية الكتاب وما في مادته من ثراء معرفي، إلا أن اسم المؤلف استوقفني أكثر.. وتساءلت من هو هذا مؤلف؟ أخذت أبحث عن معلومات تدلني على صاحبه "مسفر بن مرزح الغامدي" بين ما لدي من مصادر دون جدوى.
أخذ الكتاب مكانه في مكتبتي بعد قراءتي الأولى له. ثم عُدت إليه ثانية بعد سنوات كمرجع وأنا أعد كتابي "سفر الذاكرة" وقرأته أكثر من مرة، فوجدت كتاب مادته العلمية تفوق ببلاغة لغتها حجم الكتاب، غير أن التساؤلات حول معرفة المؤلف انبعثت من جديد! فبحثت مجددا حتى توصلت إلى بعض المعلومات الشخصية القليلة عن المؤلف، فعرفت أنه من بني كبير غامد ولد وعاش طفولته الأولى في قرية "العبادل" حتى سن السابعة. ولعله بعد ذلك انتقل مع أسرته للعيش في مدينة بيشة.
استهل كتابه آنف الذِكر بقوله: ما احتجت إلى مراجع في بحثي هذا بقدر ما احتجت إلى معرفتي ومشاهداتي لتلك البقاع. أعرفها رقعة رقعة وأخبرها شبرا شبرا، جبت مفاوزها وسبرت غورها ومجاهلها وجربت صيفها وشتاءها طيلة ست عشرة سنة.
ومن هذا الاستهلال نلمس ثقة بالغة تنم عن قدرة لدى المؤلف على قراءة حياة المجتمع وفنونه واشتمام عطر المكان بأعذب شذاه وفوح أطيابه..
سأله أحد أصدقائه ذات مرة عن سر رحلاته وتجواله في ربوع هذا الجنوب الأخضر، فرد عليه بقصيدة جاء فيها:
عزيزي أن سألت أخاك عنها
أجابك أن فيها ما يفيد
فمن واد به الأنــهار تـجــري
إلى صحراء بلقع لا تفيد
ومن أرض بها عشب كثيف
إلى جبل يغطيه الجليد
وأمصــار تـراهـا عـامــرات
وأخرى يتكي فيها الزهيد
وهنا تبدو الدلالة جلية على عشقه المتأصل للرحلة وأدبها، وللمكان وأهله.. وتوحي الأبيات السابقة وغيرها مما جاء في الكتاب على أن الشِعر كان من ضمن أدوات مسفر التعبيرية التي يدلل بها على تجلياته الوجدانية!
تساؤلات عن الشخصية
عمل مسفر في الصحافة قبل نصف قرن وأكثر، فكان مراسلا لصحيفة "البلاد" وعمل معلما فمديرا لمدرسة "الحيفة" الابتدائية في مدينة بيشة .
قبل سنوات قليلة كتبت على صفحتي في أحد مواقع التواصل الاجتماعي خاطرة قصيرة تحوي بعض التساؤلات عن مسفر مرزح الغامدي. فانهالت المداخلات من أدباء وباحثين كبار منهم الأديب علي الدميني الذي قال في معرض مداخلته: "إذا لم تخني الذاكرة فقد قرأت هذا الكتاب في حوالي عام 1972 وربما صدر قبل ذلك بكثير".
بينما قال لسان ثقافة غامد الشعبية وذاكرتها محمد بن ربيع الغامدي: الكتاب كان متداولا في عام 1390 والمؤلف له مقالات كانت تنشر خلال تلك الفترة وما قبلها.
هذا فيما طالب خالد اليوسف بضرورة إعادة تحقيق وطباعة الكتاب مع إضافة شروحات وإيضاحات.
أما القاص والكاتب تركي العسيري صاحب كتاب "بيشة كما عرفتها" فقد أورد في كتابه بضعة أسطر تحدث فيها بإيجاز بالغ عن الغامدي.. وأنه كان يطلب منه في صباه أن يبيع له المجلات التي كان يملكها؛ غير أنه وكما يقول تركي لم يكن للكتب والمجلات مشترٍ في ذلك الوقت.!
وأبان العسيري في مداخلته على خاطرتي بقوله: إنه كان واحدا من تلامذة مسفر الغامدي في المرحلة الابتدائية.. وأنهم كانوا جيرانا في السكن. وأضاف أنتقل مسفر إلى جدة حيث توفي -رحمه الله- هناك في ثمانينات القرن الهجري الماضي بعد صدور كتابه بفترة قصيرة.
أعتقد أن هذا "المسفر" مع ولعه بالأدب والرحلات والشعر والصحافة قد ترك إرثا ثقافيا كبيرا ولا أعلم ما إذا كان له أبناء أو أحفاد يقومون على جمع وحفظ ونشر ذلكم الإرث، أو لعل من الصحب من يقوم بذلك.
وهنا تساؤل بحجم الغياب، ترى أين صاحب هذا القلم السيال في زمن كانت الأقلام فيه جافة، عن تراجم القواميس الحديثة.. وهل مسفر وحده من غاب عنها أم أن هناك من أمثاله كثر غابت أسماؤهم عن القواميس سهوا؟.
رحمك الله يا مسفر.
باحث في التراث