إنها الصدمة المعرفية لحقائق الواقع عندما تتجسد في النفس والذات الثائرة اعتباطاً وشذرَ مذر، فهي ثائرة لا لشيء إلا لأنها ملئت وضُخمت بأن إيمانها قليل المفردات يقين، فهي لا تدري ما ترتكب ولا تعي ما تفعل بحيثيات واقعها، فتندفع للقتل والتدمير والتخريب والتفجير بأساليب وطرائق لم يعد العقل البشري يحتمل استيعابها ولا فهم تأويلاتها المتأسسة على العبثية، فهذه الأفعال والتصرفات الدموية والقاتلة ما هي إلا عبث فكري من عقل غير سوي، وليس فيه مرض جنون، بل يتعمق فيه مرض نفس ذات عبثية تستخرج من تراثٍ حمال لأوجه متعددة ما يوصلها إلى الطريقة العبثية، والعبثية تحجر الأسى والتأمل والندم والتفكر، وهذا ما يربط مقولة الأشتر التي ضمنها نقداً لاذعاً لما قام به من جريمة كبرى، وذلك بقتل رأس الدولة آنذاك الصحابي عثمان رضي الله عنه، إنها لحظة الحقيقة، التي استدركها على خلفيته المعرفية والواقعية، بأن ما تم من أفعال وتصرفات حدثت في ماضيه القريب، كان خطأ ليس بمستدرك لأنه مضى وانتهى، ولم يعد بمقدوره أن يستوقف فكره وعقله ويتأمل في تلك القوة الدافعة لشهوة القتل وإحقاق الحق الذي يزعمه ولا يرى حقاً سواه، وذلك بما احتضن في مكنونات ذاته من يقينيات آنية، وتلك اليقينيات قد تأسست على رؤية ظنية بأن رئيس الدولة آنذاك قد ارتكب ما يُخالف الدين، لذا فهو مستحق لإطلاق الأحكام عليه وتصبح الثقة في تلك الدولة منعدمة من الأساس، وهذا تماماً كما هو حال الجماعات الجهادية والتكفيرية التي تحمل الأحزمة الناسفة والقتل والتفجير، وبغض النظر عن مفردات تلك المخالفات، فإن تأويل أفعال ما تقول به الدول وكذلك الأفراد ليس متروكاً للصغار والأغرار ومن ليس لديه الخبرة في فهم متعلقات النصوص ومقاصد الشرع وتأويل وقائع الأمور، بل هو لمن عركته السنون وارتبط بالفهم والتأويل حتى أصبح ينطلق من أساس متين وصلب يتأسس على الحكمة والتوسع في الفهم، واعتبار الخلاف والاختلاف والإيمان بحقيقية التغير الإنساني بتغير ظروفه ومعطيات زمنه ومكانه.
إنه الأسى الذي يخرج من تلك العبارة التاريخية التي سطرتها كتب التاريخ ونقل وسرد الأقوال المسندة، فقد حفظها التاريخ لحكمةٍ وعلة، وقد نستوحي شيئاً من تلك الحكمة لنقدمه إلى شبابنا الغر الطري، بأن يستوقف ذاته ويحفظ نفسه ولو لثوان معدودة بأن يُردد على روحه المنهكة بيقين ليس فيه إلا مفردات معدودة على أصابع يديه، تلك الذات التي حمَّلها صاحبها أثقال إشكالية عالم واسع ومحتو لكل شيء فكري وعقلي يمكن أن يفكك مفردات اليقين التي يضمرها في كينونة عقله، فهو أيْ هذا العالم، مليء بالأديان المختلفة وبالأفكار المتنوعة وبالمذاهب المتناقضة في الدين الواحد، وفي هذا العالم الواسع تكونت مذاهب ومدارس التأويل والتفسير لكل النصوص، سواءً الدينية أو الأدبية أو السياسية أو القانونية، فلو أن تلك الذات الحاملة لحزامها الناسف تأملت فيما تم قبلها من تصرفات ومدى إيجابية تلك الأحداث بشيء من عقل ولو بنسبة ضئيلة، واستدركت على ذاتها هي بأن يتخلل تأملها (فلا ندري إذن علامَ قتلنا ذواتنا وأرواحنا بالدمام ونجران والعراق وسورية والولايات المتحدة الأميركية)، إنها لحظة فارقة لتلك الذوات الحاملة للأحزمة الناسفة، أن تتفكر وتعيد التأمل في طريقتها في إنهاء هذا العالم المحيط بذاتها، وإنها وقفة تأمل لتلك الذوات الحاملة للأحزمة الناسفة، أن تتفكر في طريقتها في قتل الشيوخ والأطفال والنساء، وإنها لحظة إمعان للنظر في طريقة تلك الذوات والأنفس الحاملة للأحزمة الناسفة في تفجير المساجد ودور العبادة، وإنها لحظة تأنٍ وتروٍ في طريقة تلك الأنفس في رؤيتها لمجتمعاتها ومؤسساتها الأمنية والعلمية والثقافية وتفجيرها وتخريبها، حتى لا تبقى إلا الفوضى والعبثية، وتصبح الدول والمدن بلا شيء، وتتحقق غاية الفوضى والعبثية وهي العدمية.
إن هذه الغاية العدمية هي ما يدور من حول هذه البلاد المباركة والآمنة، وهذه حقيقة يتوجب نشرها في كل مكان، وتأصيلها وتوضيحها حتى يُدرك كل أحد يتنفس ويستنشق هواء هذه الأرض الطيبة الآمنة، أن ما يُراد به من عبث وفوضى أمر خطير وجسيم، ولا مجال للاستسهال أو التهاون في كل سبيل أو مجال أو طريق ولو بقيد أنملة يُبرر أو يسوغ أو يؤول لتلك الجماعات الجهادية التكفيرية المتطرفة.