هم عشرات القصص الهامدة المتحركة على الكراسي المعدنية السوداء أمام بوابات السفر في صالة المطار. أتصفح الوجوه المختلفة تماماً مثلما أتصفح كشكولاً لقصص المآسي القصيرة. كل وجه يعج بتفاصيل يومه المثيرة وإذا أردت أن تقرأ إرهاصة ـ البيروقراط ـ ووطأة المركزية فاذهب إليهم وتمعن كل أطراف الوجوه: كل الأوراق الصفراء من الجلد البشري المسافر إلى جازان وعرعر، إلى أبها وتبوك ما بين الرابعة مساء حتى السابعة. طفل، ربما يعيش العاشرة ولكن: وجه ذابل كأنه على مشارف الخمسين، وجسد نحيل ما زال في وزن العمر من السنة الخامسة. ينام في أحضان أبيه فكأنما هو بين يديه مجرد ثوب بلا حشوة لولا أنك تلمح من الأطراف رأساً ومن الأخرى عظام القدمين. يذهب هذا الطفل للرياض صبح كل ثلاثاء من (مقطع الطين) من أجل إبرة علاج كيميائي ستمتد لثلاثة أشهر. حولوه مع الزمن إلى ـ إبرة ـ مسافرة إلى الإبرة الأخرى ومن عقود خلت لم يفكر ـ ضمير ـ واحد بأن يحصل العكس: أن تذهب الإبرة العلاجية إلى مكان الإبرة الآدمية فكل القصة لا تحتاج إلا لطبيب واحد يخدم عشرات الإبر الإنسانية. لماذا لا نجد هذه ـ الكيمياء ـ العلاجية إلا في رأس ـ المركزي ـ ولماذا استطاعت كل هذه الطائرات العائدة إلى الأطراف البعيدة مقتبل المساء أن تحمل كل هذه الأرواح المتعبة ولم تستطع أن تحمل على العكس عشر إبر للعلاج وعشرة أطباء معها إلى تلك المطارات النائية؟ لماذا وهو السؤال الجوهري، يدرس أبناء الأطراف البعيدة، وبالتزامن، مادة الكيمياء قبل حصة الجغرافيا إذا كانوا يعرفون بالضبط أن ـ الكيمياء ـ لا تغطي كل طرف الجغرافيا؟ لماذا يدرس طلابنا في الزوايا البعيدة النائية كل أسماء المواد إذا كانوا يعرفون أن الكيمياء والفيزياء و(الحساب) والهندسة ستبقى مجرد نظريات من ورق أصفر لن يشاهدوا بياضه على الإطلاق إلا إن هم ركبوا الطائرة؟ لماذا يدرس هؤلاء الأطفال تلك المواد وهم يعرفون أن الباقي (المتحصل) لديهم ليس إلا قوافي الشعر لأن الكبار من أهل القرار من أصحاب السعادة يظنون أن محلول الكيمياء لا يتحد في الأجساد المريضة إلا بالوصول الأسبوعي لإبرة عبر طائرة مسافرة. هي ذات الطائرة التي سافرت بالجد ليموت، وبالأب ليموت، وبالطفل ليتعلق بالحياة، ميتاً عبر طائرة توصله للإبرة صباح الثلاثاء ويعود لأهله عليها بعيد الشفق.