ضوابط الشريعة في حرية النقد والتعبير تخضع لمعيارين، الأول ألا يتجاوز ثوابت الدين ومحرماته، والثاني ألا يتجاوز حقوق العباد والبلاد بحيث يلحق الضرر بالحق الخاص للأفراد أو الحق العام للدولة، وعند الالتزام بهذين الثابتين فللناقد حرية التعبير، سواء كان لمجرد الحديث والكتابة أو للتسلية فهو من باب المباح، وإن كان بقصد النصيحة والإصلاح فهو بين الاستحباب والوجوب، وإذا لم يلتزم بالضوابط فإنه بين الكراهة والتحريم، ولأصحاب الحقوق الخاصة والعامة حق المطالبة بها في الدنيا والآخرة.
ولكن هل يجوز للقضاة أن يقوموا بنقد غيرهم من العباد فضلا عن نقد ولي أمر البلاد وولاته ومؤسساته وقراراته، حيث يلزم في ذلك الالتزام بأحكام الشريعة الآنف ذكرها من جهة، والتقيّد بأحكام النظام من جهة أخرى، ومن ذلك أن القاضي يصنف قانونيا بأنه ضمن الموظفين العامين الذين يسري عليهم نظام الخدمة المدنية ولائحة الواجبات الوظيفية، وذلك ضمن عموم مليوني موظف مدني وعسكري في الوطن، وكذلك يسري عليهم من جهة خاصة (نظام القضاء) وعلى وجه التحديد الفصل الثالث تحت عنوان (واجبات القضاة)، والمادة رقم 51 نصت على أنه (لا يجوز الجمع بين وظيفة القضاء ومزاولة التجارة، أو أي وظيفة أو عمل لا يتفق مع استقلال القضاء وكرامته، ويجوز للمجلس الأعلى للقضاء أن يقرر منع القاضي من مباشرة أي عمل يرى أن القيام به يتعارض مع واجبات الوظيفة وحسن أدائها)، وهنا ينبغي التركيز على مضمون (كرامة القضاء) و(حسن الأداء)، وهما يستلزمان عدم الدخول في النقد للآخر، سواء خاص أو عام، لأنه سوف يؤثر عليهما، كما أن دخول القاضي في باب النقد للعموم فضلًا عن الخصوص ناهيك عن مرجعه ومسؤوليه فهو من باب أولى في التحريم والمنع، ويؤثر على كرامة القضاء واستقلاله، وكما أن قيام الكتّاب بنقد القضاة والقضاء ومسؤوليه يؤثر على كرامة القضاء وحسن أدائه وهيبته ووقاره واستقلاله وحصانته، فمن باب أولى أن يلتزم القضاة بذلك لأنهم القدوة من جهة والمعنيون بالقضاء قبل غيرهم من جهة أخرى، ومن واجبهم الالتزام بأحكام الشريعة ومقاصدها والتقيّد بالأنظمة والتعليمات، ومن ذلك ما جاء في المادة رقم 11 من (نظام الخدمة المدنية) ونصها: (يجب على الموظف خاصة: أ/ أن يترفع عن كل ما يخل بشرف الوظيفة والكرامة، سواء كان ذلك في محل العمل أم خارجه، ب/ أن يراعي آداب اللياقة في تصرفاته مع الجمهور ورؤسائه وزملائه ومرؤوسيه، ج/ أن يخصص وقت العمل لأداء واجبات وظيفته، وأن ينفذ الأوامر الصادرة إليه بدقة وأمانة في حدود النظم والتعليمات)، واللائحة التنفيذية لهذه المادة جاءت بأمر مهم للغاية في الفقرة (1/11) ونصها: (يحظر على الموظف توجيه النقد أو اللوم إلى الحكومة بأية وسيلة من وسائل الإعلام المحلية أو الخارجية)، والإعلام يشمل القديم التقليدي كالتلفزيون والإذاعة والجريدة، والجديد غير التقليدي كشبكة الإنترنت شاملة المنتديات ومواقع التواصل الاجتماعي وكل ما يمكن بواسطته تحقيق مناط (الإعلام)، وهو ما زاد على التواصل الثنائي الخاص، ويدخل في ذلك أولويًّا الاحتساب على ولاة الأمر والدولة علنًا وتوقيع البيانات ونشر المقالات وكل ما يتضمن مخالفة هذه الأنظمة والتعليمات، وآخرها الأمر السامي البرقي الكريم ذو الرقم 24492 والتاريخ 14/5/1433هـ الصادر بموجبه قرار المجلس الأعلى للقضاء ذو الرقم 2259/19/33 والتاريخ 25/5/1433هـ والمعمم من معالي رئيس المجلس برقم 264/ت وتاريخ 26/5/1433هـ القاضي بمنع القضاة من المشاركات الإعلامية التي تشمل الإعلامَين القديم والجديد المرئي والمسموع والمقروء، بما فيه الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي وكل وسائل التعبير التي تخرق "واجب التحفظ" المعروف مهنياً لكل القضاة في العالم، وعليه فلا يجوز للقاضي النقد مطلقا ومن باب أولى نقده قرارات ولاة الأمر في إصدار الأنظمة والتكليفات، ومن ذلك نقد رؤسائه، فضلًا عن المهاترات عبر المقالات والتغريدات والهاشتاقات ونحوه مما لا يليق بعضو السلك القضائي فعله، ويعتبر ذلك خرقا لواجب التحفظ، فضلاً عن اتخاذ مواقف ذات صبغة سياسية وحزبية وفكرية، ناهيك عن التعبير بما يفقده حياده وموضوعيته الواجبين على القاضي لكونه من الواجب أن يكون ملاذا آمنا للجميع بتنوع دياناتهم وقومياتهم وأوطانهم وألوانهم وأفكارهم، وحينما يكون القضاء سلاح تهديد من فئة ضد أخرى، وتلك الفئة الأخرى تخشى من اللجوء إلى القضاء ضد خصومها لاعتقادها عدم العدالة فهذا دليل على أن القضاء قد فقد حياديته وصارت العدالة في مهب الريح، ومن غير المعقول أن القضية نفسها تحال للقضاء، فمرة يحكم باختصاص المحكمة بها لكون (المدعي) من فئة، ويحكم مرة أخرى بعدم اختصاصه لكون المدعي حينها من الفئة الأخرى، والأسوأ حينما يدان المدعى عليه بتهمة الاعتداء على الآخر بتويتر لكون الآخر "مطوعا"، في حين أن "المطوع" تتم تبرئته من نفس التهمة إذا كان في مقعد (المدعى عليه)، بل وتتم شرعنة اعتدائه بزعم (الاحتساب)، وحينها يجب شرعا وعدلا على ولي الأمر سرعة الحزم بتحرير القضاء من الاختطاف الفكري والحزبي وإعادة استقلاله الحقيقي.