بلغت انقساماتنا الفكرية والثقافية ذروة مؤشرها نهاية الأسبوع الماضي تحت ضغط حادثتين شهيرتين، وهذه الحوادث ليست عوامل انقسام بقدر ما هي مناسبات لتستغل للاصطفاف ورفع درجة المؤشر. بالفعل، نحن منقسمون على كل شيء: على القصيدة والمقالة والتغريدة والخطبة والكتاب والمنهج والمدرسة، وهذه مؤشرات بالغة الخطورة على قوامنا الأهلي الوطني وأمننا المجتمعي. لماذا نحن منقسمون حد الانفصام المكتمل إلى كتلتين متقابلتين على كل رأي أو فكرة؟ وجواب السؤال بكل تأكيد يحتاج إلى أوراق عمل وآراء خبراء، ولا يمكن اختزاله في مقالة شاردة.

نحن منقسمون لأننا لم نربَّ في الأصل على القبول بالتعددية الحتمية في شتى مشارب قوامنا المجتمعي. نحن في الأصل والجذر كنا تعددية ثقافية بها كل ألوان الطيف وأكثر، ومن الخطأ الفادح أن يظن أحد أننا "فكرة" ثقافية واحدة متجانسة. نحن طبائع وأطياف شتى لا تمثل ولا تشبه إلا تضاريس هذا الوطن الواسع الكبير. ثقافة الجبال تختلف عن ثقافة الرمال وحياة الحجازي وأنساقه تختلف عن "الخلجاوي". الشمال تكوين حضاري يختلف عن "المكوَّن" الجنوبي، وهكذا هي طباع الفطرة البشرية. لكننا لا نعلم من هو الذي أقنعنا أن مثل هذه التعددية الثقافية شرخ في جدار الوحدة الوطنية؟ ومن هو الذي أوهمنا أنها مسمار في نعش المكون الوطني؟ نحن منقسمون لأننا حاولنا بجنون أن نبني وهم الطيف الواحد والثوب الواحد على أجساد متباينة الأوزان والأحجام في الأصل دون أن نوظف هذا التعدد الخيالي إلى أفكار تنافسية كما تفعل كل مجتمعات الأرض، وكما هي صيرورة الارتقاء البشري. نحن منقسمون لأننا وحدنا الكتاب الجامعي في كل مقرر دراسي ثم نوزعه على عشرات الجامعات ومئات القاعات مثلما نوزع عبوة الحليب على البقالات بعد صلاة الفجر. نحن منقسمون لأننا وحدنا الخطاب الدعوي في صوت واحد مثلما وحدنا محاضرات النادي الأدبي في ذات القوالب المتجانسة كأطباق البيض. نحن منقسمون لأننا ألغينا فطرة التعدد المذهبي على تلقائية ذات الخريطة حتى أصبح الاختلاف الفقهي في مجرد الفتوى الشرعية انقساماً صارخاً على العقيدة. نحن وللحق، بالغنا أكثر مما يجب في تغذية الصوت الواحد والخطاب الواحد والمظهر الواحد إلى الدرجة التي أصبحنا فيها لا نرى من حولنا إلا بالاستعلاء والتمييز والفوقية. نحن بالغنا في هذا المسار أكثر مما يجب حتى أصبحنا لا نقبل من الآخر رأياً أو فتوى أو كتاباً، والنتيجة أننا لم نعد "فكرة" خطرة على الآخر بل على أنفسنا، وهذا واضح جلي يظهر بالبرهان مع كل قصة أو حادثة نعيشها أو تأتي إلينا طوعاً أو قسراً في وقائع حياتنا اليومية. المساحة هنا أصغر بكثير من إكمال الفكرة.