أكاد مع توالي بعض الأحداث التي تظهر على ساحة حياتنا الاجتماعية بشكل مكرور في الحدوث، ومتشابه في الثيمة أن أميل للاقتناع بأننا فعلا لا نحتاج قاعات سينما عالمية، ولا مسارح تعرض عليها تراجيديات أو مهازل مختلفة لترفيه الشارع وإشغال الناس وتصديرها للعالم كحالة "تحضّر" تعكس حياتنا الحالية.
أمام ما يحدث إما أن تقف متفرجا فاقدا للدهشة بعد أن فارقت الأشياء بديهيتها ومنطقيتها وهي تتجاوز حد اللامعقول وغير الممكن، وإما أن تبدي رأيك وهو بكل الأحوال غير مسموع سواء كنت منكرا أم مؤيدا، مناصرا أم مؤلبا. في هذه الأحداث تتغير الخلفية المكانية وتأخذ القصة سياقات مختلفة وصورا متعددة بعضها قد لا يخطر على بال، لا لدهشتها كما أسلفت؛ فالدهشة رديف الإعجاب، بل لفرط توغّلها في الإسفاف والتردّي الأخلاقي الذي تخجل منه قيم المروءة والدين.
يكاد يكون أبطال القصة في كل مرة هم أنفسهم، والبطولة المطلقة من نصيب المرأة التي غالبا ما تخرج في نهاية المشهد مهزومة، ومهزوزة، ومكسورة الجناح، فالأبطال في قصص بلدي حليفهم النهايات التعيسة أو تلك المفتوحة على باب من ريح التنبؤ بقادم مجهول ومخيف. يتصارع الأبطال في كل حادثة على قيمة الفضيلة والرذيلة، ويضعون لها معيارا شكليا، ملموسا وماديا، وكأنهم لا يعلمون أن الخارج وإن كان يبدو صلدا ومتماسكا إلا أنه قد يكون من الداخل هشا، وضئيلا. وأن الفضيلة لا ميزان لها إلا الفعل وسرائر مخبوءة لا تحتاج أن نجاهر بها. أما الرذيلة فقد تأخذ صورا عديدة ولا يجملها أي ستار مهما أدعى قربه من السماء أو نقاء النوايا. ينتهي الحدث وتغلق الستارة على خشبة مسرح ما، لتستعد لرفعها بسيناريو مشابه في مكان آخر، والمخرج لم يضع لنا نهاية معقولة لصراع الرذائل والفضائل ومدعيها، نهاية مبتورة من سياق هائم في حيرته يتخبط ليخلق سياقا آخر تستمر فيه مهازل المتصارعين على حساب القيم والتنمية والمدنية، بينما البطلة/ الملكة/ الجوهرة المصونة أو أيا كان اسمها في المجتمع، تضع يد تحسرها على خدها وتخوض مجبرة هذا التيار الذي لا تعلم إلى أين سيجرفها، وإن قاومته، ربما غرقت أو لفظها النهر على شاطئ لا حياة فيه.
قبل عدة أيام، شاهدنا المسرحية ما قبل الأخيرة، ما عرفت باسم فتاة النخيل. اصطف الجمهور في المكان بعد أن ترصد "الأبطال" الضحية ووجدوا لهم من أجلها سببا يتنادون عليه، لوحقت لعدة أمتار وهم يطلقون سوقهم خلفها لأن رذيلة ما شبّه لهم أنها خلف سوادها. سحلت على الأرض وكشفت أجزاء من جسدها أمام جموع من الجمهور المتعطش للبحث عن قصة جديدة يحللها لاحقا من خلف شاشة أجهزته، وأقسم أحد المؤدين للأدوار أنه أحرص عليها ممن تحرك داخله قليل مما سمعناه من آبائنا قديما باسم "الشيمة". هنا وهو يعلم أنه بطل في ميدان لا يجرؤ أحد فيه أن ينازله عليه، سيوسع الضحية ضربا وشتما ولو أخذه الحماس والتمكن منها قليلا قد يوسعها موتا، ولا تثريب عليه فقد فعلها إخوة له من قبل.
تصرخ البطلة المذعورة في كل الحكايات: "أنا في وجيهكم"، بعامية نعرف جميعا مدى الرجاء والانكسار فيها، وكأنها تخرج عن سياق النص وتلوذ بكل ما تبقى من خلق أصيل، أو إنسانية عميقة، أو بقايا رجولة، أو أي فضيلة مدعاة أن يتوقفوا عن هذا الأداء السخيف، وعن هذه المهزلة الأخلاقية الكبرى. صوت بطلة فتاة النخيل وهي تقول: "أنا في وجيهكم"، هو صوت كل امرأة في هذا المجتمع سلبت حقا من أي حزب فرح بما لديه من ادعاءات أنه الحق المطلق ضد غريمه المثقل بالشرور، إنه صوتها الضائع في مدى صراع التيارات التي لا تريد أن تنتهي، إن لم يكن لأجل الانتصار لكرامتها، فلأجل ما تبقى من إنسانية تنشدها وهي تستصرخ بالله ألا يتركوها له. هي أولى أن تختار ما هداها الله له من "نجدين" سيحاسبها عليه لاحقا كأي بطل حضر في مسرحها العدمي، هي من تُقيم في داخلها ميزان الرذيلة والفضيلة وترجّح كفة ما تريد منه ولو غشاها ألف جلباب أو أغلق دونها ألف باب.
نحن "في وجيهكم" أن تتركوا المرأة وشأنها؛ افسحوا لها الطريق لتعبر قليلا نحو الحياة، الحياة التي لا تنشد فيها ترف الكمال، بل أسباب البقاء البسيطة، والكرامة التي نتشبث بها رغما عما يدبر كل فريق. اتركوها لنفسها وخياراتها وابحثوا عن الفضيلة في داخلكم.
نحن في وجيهكم، أن تتركوا المرأة تصعد سلم الحياة دون يد من غلظة تشدّ ذراعها للأسفل، فقد يكون وقع الارتداد عظيما، وعاقبته وخيمة.