غنيُ عن القول إن الحوثيين ينتمون من الناحية المذهبية إلى المذهب الزيدي، لكن هذا المذهب لا يمكن حصره في الحوثيين أو اختزاله فيهم. فالمطّلع على تاريخ هذا المذهب يدرك أنه كان عابراً للجغرافيا والتاريخ معاً! إذ ارتحل عن طريق أعلامه ورموزه، بدءاً من العراق والحجاز في القرن الثاني للهجرة، ثم طبرستان الواقعة شمالي إيران، وجنوبي بحر قزوين ثم استقر به المقام في اليمن في أواخر القرن الثالث الهجري. ومنذ هذا التاريخ وطوال ألف عام جاءت بعده؛ ظل هذا المذهب سائداً فيما يعرف اليوم بإقليم آزال من أرض اليمن، وهو الإقليم المتربع على طول الهضبة اليمنية. بسبب السيادة الفكرية على هذا النحو، ومن أجل مسيرته التاريخية الطويلة في اليمن، فضلاً عن عقلانية مؤسسيه (الإمام زيد بن علي ومن جاء بعده)، لذلك فقد أنتج المذهب الزيدي تراثاً ضخماً واسع الأرجاء، متعدد الاتجاهات، متنوع العلوم والمعارف.
هذا المذهب كان له متعصبوه شأنه شأن المتعصبين من أبناء المذاهب لمذاهبهم، لكنه في مقابل ذلك كان في داخله أيضاً مدرسة فكرية اتسمت بالانفتاح، وطلب الحقيقة أياً كان مصدرها. نشوء هذه المدرسة على هذا الوجه يأتي بسبب ما يحمله المذهب الزيدي في بنيته الفكرية أساساً، الحاضة على الاستقلال، والمثرّبة على الفقيه أو العالم المقلّد إن كان يستطيع الاجتهاد. من هنا نفهم ظهور علماء من المذهب الزيدي الذين كانوا يحملون نسقاً فكرياً يبدو مستقلاً مثل العلامة ابن الوزير ت: 840 أو العلامة المقبلي ت: 1108 وصولاً بالإمام الصنعاني ت: 1182، وانتهاءً بالإمام الشوكاني ت: 1250. المذهب الزيدي لما كان الحامل الأيديولوجي لحكم الإمامة في اليمن، فقد كان مُبرراً أن يتم تجاهله، بل والتثريب عليه ونقده، واتهامه بالرجعية منذ أن تمكن الجمهوريون في اليمن من إسقاط حكم الإمامة 1382 / 1962.
وهكذا فالحوثيون إن يكونوا قد أرادوا بعث المذهب الزيدي من جديد، إلا أنه بعثُ مشوّهاً ومختزلاً. إنه بعثُ حانق، لأنه معترض في الأساس على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية البائسة، لا سيما في أقصى الشمال اليمني. في هذا الإطار فإن اليمنيين -وبالأخص سكان الشمال اليمني- كانوا يدركون حجم الفساد الكبير للسلطة الحاكمة، وضعفها، وهشاشتها، بل ليست مجازفة القول إن الحوثيين ليسوا سوى مجموعة من الشباب الذين أرادوا بناء دولة في مكان بلا دولة! أي أن الدولة بأجهزتها، وأنظمتها، ومهامها، كانت شبه غائبة تماماً في المنطقة التي بزغت منها حركة الحوثيين! وهكذا وإذا كانت الأوضاع الداخلية سبباً في بزوغ هذه الحركة المشوّهة إلا أن ثمة أيضاً أوضاعاً وظروفاً خارجية أثرت في صورة هذه الحركة، يأتي على رأسها التأثر السياسي الكبير بالفعل الثوري القادم من إيران وما أعقبه من ظهور النظام الإيراني على هذا النحو الديني والمذهبي الفجّ الذي نراه اليوم. لقد نظر الحوثيون إلى الثورة الإيرانية نظرة إعجاب وإكبار، واستهواهم فكرها الثوري بطابعه المذهبي، ولعل زيارات رموز الحوثيين المتكررة خلال العقدين الماضيين إلى إيران تعدّ أمراً يؤشر على صحة هذا التقدير.
ليس هذا فحسب، بل لا شك أيضاً في أن انتشار الفكر السلفي الذي يحاكم الأشياء بصورة محض عقدية في منطقة الشمال اليمني، لا سيما في منطقة دمّاج وغيرها في نواحي صعدة، كانت له نتائجه الكبيرة من حيث صراع الأفكار في تلك المنطقة، خاصة مع استحضار أن هذه المدينة تُمثّل من الناحية التاريخية المعقل الثابت والعتيد للزيدية الهادوية منذ أكثر من عشرة قرون، إذ لم يكن الفكر السلفي في هذا السياق سوى مُنبّهاً، ومحفّزاً خطيراً يقضي بضرورة إنتاج فكر وحركة تقاوم هذا الفكر، الذي أصبحت معاهده ومراكزه قائمة تكتظ بالمريدين والأتباع. ولم يكن أفضل لمقاومة هذا الفكر من الالتفاف على المذهب الزيدي لكن بنسخة مُعدّلة أكثر راديكالية وأشد أصولية!
الحوثيون بسبب نزوتهم على الثورة اليمنية الشعبية، وتحالفهم الفاسد مع الرئيس اليمني السابق عطفاً على رؤيتهم المذهبية الضيقة وقصورهم عن إنتاج مشروع وطني جامع، وقبل كل ذلك فإنه بسبب رهن فعلهم السياسي بأجندات النظام الإيراني مع انعدام توخيهم للمعادلات الدولية والإقليمية ومع دول الجوار فإنهم قادوا اليمن إلى التمزق، والفوضى أكثر من ذي قبل، وهذا ما جعل من عاصفة الحزم عملية ضرورية وواجبة، وفي المكان والزمان المناسبين!