بعد فاجعة 11 سبتمبر التي صعقت أميركا، وهزت العالم، بدأت مراجعة ما حدث من قبل الدوائر الاستخباراتية والأمنية والسياسية، وحتى الأكاديمية ومراكز الدراسات الاستراتيجية والأمنية الأميركية، لمعرفة حقيقة ما جرى؛ وهل كان بالإمكان تفاديه أم لا؟ بعد الدراسات التي اعتمدت على كشف الملفات السرية وغير السرية؛ اتضح أنه كانت هنالك معلومات مشتتة وغير متكاملة، موجودة عند بعض الدوائر الاستخباراتية والأمنية الأميركية، تؤشر إلى قرب وقوع مثل هذا الحادث الإرهابي الشنيع، في عقر دار أميركا، وبالتحديد ضد مراكز قوتها وهيبتها؛ لو تسنى جمعها ودراستها كوحدة واحدة، قبل وقوع الحادث، لتم تفادي وقوعه.
وعلى هذا الأساس تمت التوصية من أغلب الأطراف التي درست ودققت ملفات وقوع الحادث الإرهابي، بأن يتم تأسيس مؤسسة أو كيان أمني مستقل، يجمع جميع ما يرد للأجهزة الاستخباراتية والأمنية والمدنية وحتى البحثية من معلومات مشتتة ومتناثرة، ليتم جمعها وأرشفتها كوحدات مستقلة، وعليه دراسة كل واحدة منها على حدة، والخروج بتصور أكثر وضوحا ودقة، من أجل سرعة التعامل معه، قبل أن يستفحل أمره ويضرب ضربته. وهنا تم اقتراح تأسيس ما عرف بـUnited States Department of Homeland Security، وزارة الأمن الداخلي الأميركي، أو هكذا ترجمتها، وتم تأسيسها على وجه السرعة.
ومهمة هذه الوزارة، هو منع الهجمات الإرهابية من الوقوع داخل أميركا بقدر المستطاع، أو على الأقل تقليص إمكانية وقوعها ما أمكن ذلك؛ وتخفيف آثارها في حال وقعت، وكذلك الخروج منها بأقل الخسائر البشرية والمادية. كان السبب الرئيسي في تأسيس مثل هذه الوزارة، هو شبه اتفاق، لجان التحقيق والدراسات الرسمية التي حققت وبحثت في موضوع سبب وقوع كارثة 11 سبتمبر الإرهابية، على أن المعلومات عن وقوعه كانت موجودة، ولكن بشكل متناثر ومشتت بين عدة إدارات استخباراتية وأمنية ودبلوماسية ومراكز بحثية؛ لذلك ورغم وجود هذه المعلومات الخطيرة إلا أن الصورة لم تتضح بالشكل المطلوب كونها مشتتة وغير مكتملة عند كل مصدر.
إذًا فالمشكلة قد لا تكون في غياب المعلومة عن مخطط للقيام بعمل إرهابي ما؛ ولكن في اكتمال هذه المعلومة. ولا تكتمل المعلومة، إلا بجمعها من عدة مصادر ووضعها في مصدر واحد، للخروج منها بصورة واضحة ودقيقة وبتفاصيلها، أو على الأقل بتحذير حيال وقوعها، والبحث عن معلومات أكثر وأحدث عنها، والخروج برؤية متكاملة عنها، ووضع الخطط المناسبة لمنعها، قبل حدوثها وفي الوقت المناسب.
كما لا يقل أهمية عن منع وقوع الحادث الإرهابي، هو التقليص من إمكانية وقوعه قدر المستطاع. كما لا يقل أهمية كذلك عملية تخفيف الآثار الكارثية في حال وقوع عمل إرهابي ووضع الخطط المناسبة للخروج من أي حادث إرهابي يقع، ليس فقط بأقل الخسائر، ولكن كذلك بأسرع وأيسر الطرق للخروج منه. وبما أن المهمات أعلاه قد تقع على أكثر من قطاع أو دائرة حكومية سواء كانت أمنية أو مدنية أو حتى خاصة؛ حتم وجود منسق واحد، يخطط وينسق بينها، لجمع جهودها وتكثيفه نحو منع الكارثة أو الخروج منها بأسرع وأقل الخسائر.
الإرهاب أصبح وباء عالميا، لم ولن تسلم منه أي دولة، ومن الصعب القضاء عليه بالسهولة المرجوة. الإرهاب ليس كأي جريمة نتاج حاجة وفعل؛ الإرهاب نتاج ثقافة وفكر ودعاية وتنظيم ودعم مادي وإدارة ومساندة وفعل، أي هو متعلق بعدة حلقات، من الممكن ضرب أي منها، ويتم منع وقوع الفعل. أي ليس من الحكمة معاملة الإرهاب كأي جريمة، وذلك بمحاربتها أمنياً؛ مع كون الجريمة كذلك من الصعب القضاء عليها، ولكن من الممكن الحد منها ومن خطورتها. الإرهاب لا يحد منه من أجل التعايش معه بأقل الخسائر كما هي الجريمة، ولكن لا بد من خطوات مستعجلة للقضاء عليه ومنع فسح المجال لتكرار وقوعه.
وبما أن الإرهاب يتدرج من سلسلة حلقات، أولها التطرف والتشدد والطائفية والتعصب والعنصرية، ثم التكفير، وبعدها الدعاية للفكر المتطرف التكفيري، ومن ثم جمع جهود المتطرفين في مجموعة أو خليه واحدة، والتي بدورها تحتاج لإدارة ثم دعم وتدريب ومساندة، حيث يخرج علينا الإرهاب تفجيرا بعد كل تكفير، معنى هذا أن الإرهاب كما أوردنا، ليس كالجريمة نتاج حاجة وعمل غير قانوني، مع أهمية المحاربة الاجتماعية للجريمة، والتي يمكن لقطاع أمني واحد أو اثنين أن يتعاملا معها، مثل المخدرات أو السرقة، إنما الإرهاب يبدأ بفكرة ومن ثم دعاية وإدارة وتمويل وتدريب ومساندة وتفجير، أي أن رصد هذه الحلقات من قبل جهة حكومية أمنية أو مدنية واحدة أو اثنتين قد لا يكون كافيا لجلاء الصورة وبوضوح للمسؤول عن محاربة الإرهاب. قد تجد أن لدى كل قطاع حكومي سواء كان أمنيا أو مدنيا، معلومة عن حلقة من الحلقات المكونة للإرهاب، ولكن وجودها متفرقة كعدمه؛ وهذا ما توصلت إليه لجان التحقيق الأمنية والسياسية والدبلوماسية والأكاديمية في حادثة 11 سبتمبر بأميركا.
قبل مدة تساءل أستاذنا الوطني الجميل قينان الغامدي مندهشاً في مقالة له في هذه الصحيفة، من وجود ردود فعل غاضبة ومدينة لكل عمل إرهابي يحدث من عدة قطاعات حكومية دينية ومدنية؛ ولكن لا شيء يتغير، النتيجة هي هي، تفجير بعد تفجير. وكذلك يشاركه في هذا التساؤل والاستغراب أغلب كاتباتنا وكتابنا في صحافتنا الوطنية.
صحيح أن الإرهاب لا يجابه فقط بالعمليات الأمنية وحدها ولكن بالفكر أيضاً؛ ولكن الفكر يجابه الفكر لا غير، ولا يستطيع وحده أن يجابه الفعل؛ والإرهاب فعل مستطير سواء كان فكرا أو تفجيرا. يستطيع الفكر فضح الفكر، ولكن لا يستطيع منعه من النزول على الأرض؛ وإنما يقترح حلولا لمنعه من ذلك.
والجواب عن أسئلة الزميلات والزملاء وجميع الوطنيين المخلصين، ممن يستغربون تكرار التفجيرات الإرهابية لدينا، هو عدم وجود قطاع واحد يضم في جنباته متخصصين أمنيين ومدنيين، لجمع المعلومات المتناثرة عن كل حلقة من حلقات الإرهاب، من كل القطاعات الحكومية المدنية منها والعسكرية، والخروج منها بتصور واضح ومتكامل، ووضع الخطط المقترحة لمنع الإرهاب قبل وقوعه. ووضع الخطط كذلك للتقليل من خسائر أفعاله البشرية والمادية، ومحاولة الخروج من حوادثه بأسرع الطرق وأنجحها.
ولذلك أقترح تأسيس هيئة وطنية عليا لمكافحة التطرف ومحاربة الإرهاب، تضم متخصصين مدنيين وعسكريين وطنيين، تكون لها صلاحيات آمرة على جميع القطاعات الحكومية العسكرية منها والمدنية، وتكون تحت قيادة خادم الحرمين الشريفين مباشرة، أو ولي عهده الأمين، حيث تنسق بين جهود جميع القطاعات الحكومية وترسل لكل دائرة حكومية ملاحظاتها عليها، من أجل أن تؤدي عملها كاملاً وعلى أتم وجه في مكافحة الإرهاب. لو وجدت مثل هذه الهيئة العليا، لما تمنع وتردد مجلس الشورى من إصدار قانون يجرم التكفير والطائفية والعنصرية، وهي حلقة من أخطر حلقات الفعل الإرهابي التي ينطلق منها للتفجير.