الاهتمام بالأطفال هو أحد المقاييس الرئيسية على نهوض وتقدم مجتمع ما أو تخلفه، باعتبار أن الطفل هو أثمن مكتسبات الوطن ومستقبله الحقيقي. هذا الاهتمام يعني متابعة تشكّل هذا الطفل صحيا وتربويا من بداية تشكّله في بطن أمه إلى أن يبلغ السن القانونية ويصبح مسؤولا عن نفسه. هذه المهمة تقوم بها المؤسسات الرسمية الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني بالإضافة إلى العامل الأساس الذي هو الأسرة، النواة الأولى لتشكل هذا الإنسان.
خلف هذا كله فكرة أساسية وهي أن الطفل كائن يتحمل مسؤوليته الجميع ويشرف عليه الجميع. أعني أن المؤسسات الرسمية لها الحق في التدخل في شؤون الأسرة للتأكد من أن هذا الطفل يحظى بالرعاية الصحية والتربوية المناسبة. وإن كان وضع الطفل غير مناسب فإن للمؤسسات الرسمية حق إجبار الأسرة على تعديل وضعه أو سحبه منهم بحكم قضائي ووضعه في بيئة صالحة ومناسبة لينشأ متزنا متعافيا. تتم هذه المهمة من خلال جدول متابعة تقوم به الجهات المعنية في الشؤون الاجتماعية والتعليمية لمتابعة الأطفال حسب جداول زمنية منظّمة. من هنا تحديدا ظهرت فكرة إلزامية التعليم وإلزامية المتابعة الصحية والأدوار الاجتماعية التي تمارسها المدارس. هذه هي الأوضاع في أغلب دول العالم المتقدمة. أما إذا عدنا إلى الدول العربية فإن الأوضاع غير مطمئنة باعتبار أن المؤسسات الرسمية تترك للأسرة الدور الكامل وعلى حسب الأسرة يتحدد حال طفل المستقبل. ولكن ماذا عن الطفل السعودي تحديدا؟
يمكنني القول إن الفكرة العامة لدينا هي أن الأسرة هي المسؤولة عن الطفل وأن المؤسسات الرسمية لا تمارس عملا منظّما لمتابعة الأطفال في المنازل. الرعاية الصحية متوفرة ولكنها مكفولة بوعي الأسرة وليست بمتابعة منظّمة. بمعنى أن الطفل في أسرة غير واعية يمكن أن يعيش في بيئة صحية سيئة وتغذية رديئة ويبقى بدون تعليم دون أن تتعرض هذه الأسرة لمساءلة قانونية. حسب علمي فإن قانونا بإلزامية التعليم الابتدائي قد صدر منذ فترة طويلة ولكن الأكيد أنه لم يأخذ طريقه للتطبيق، وبالتالي فإن المدرسة التي يتوقف أحد طلابها عن الدراسة لا تملك حقا قانونيا أو إجراء رسميا لمساءلة الأسرة عن غياب هذا الطفل والتأكد من حصوله على حقه في التعليم. قد يتوقع الكثيرون أنه لا يوجد أطفال لا يذهبون للمدارس، ولكن من تتبع هذه القضية سيعلم أن عددا مهما من الأطفال لا يذهبون للمدارس لعدد من الأسباب من أهمها أنهم يعيشون في أسر مفككة لأسباب مالية أو أخلاقية أو تورط الوالدين في المخدرات. أو بسبب بعد إقامة الأسر عن المدارس، خصوصا في البوادي. سبب ثالث أساسي يكمن في رؤية الأسرة أن الطفل لا يحتاج للدراسة لأسباب دينية أو ثقافية أخرى.
من هذه الصورة الكبيرة نصل إلى صورتنا المقصودة في هذا المقال وهي صورة أطفال المبتعثين، مع البرنامج الأهم والأثمن في وقتنا الحالي: برنامج الملك عبدالله للابتعاث الخارجي.
ارتفع عدد الأسر السعودية في الخارج وارتفع وفقا لذلك عدد الأطفال أيضا. حسب النظام الحالي فإن وزارة التعليم العالي تصرف مبلغا في حدود 300 دولار أمريكي شهريا عن كل طفل لأسرة مبتعثة ولا تتحمل الوزارة مصاريفه التعليمية. في المقابل فإن الوزارة تتكفل بمصاريف تعليم المبتعث والمرافق أو المرافقة إضافة إلى مبلغ 900 دولار للمرافق أو المرافقة والمبلغ الأساسي للمبتعث أو المبتعثة وهو 1800 دولار. ما يمكن ملاحظته هنا مباشرة أن الطفل خارج الحسبة أي أن مصاريفه الدراسية غير مأخوذة بعين الاعتبار كما هو الحال مع المرافق. فـ 300 دولار للطفل في أمريكا، والوضع مقارب في الدول الأخرى، بالكاد تكفي مصاريفه الطبيعية من لبس وأكل وترفيه. لكن المشكلة الكبرى تكمن في أن تعليم الأطفال، خصوصا قبل سن الرابعة مكلف جدا. فمعدل مصاريف الحضانات أو الروضات المناسبة للأطفال تتراوح في حدود الألف دولار شهريا وترتفع كلما كان الطفل أصغر في العمر ويحتاج إلى رعاية أكبر. أغلب المبتعثين غير قادرين على تحمل هذه المصاريف، فالثلاثمائة دولار تختفي في بداية الشهر في المصاريف الطبيعية. ولكن ما الذي يجري؟ الذي يحدث أن كثيرا من الطلاب يضطرون بسبب الأوضاع المادية وضع أطفالهم في أماكن غير مناسبة صحيا وتربويا، ولكنها تناسب أوضاعهم المادية. أغلبهم يضع طفله أو أطفاله مع سيدات يفتحن منازلهن الخاصة لحضانة الأطفال. وضع الأطفال بهذا الشكل غير مناسب، بل قد يتسبب في مشاكل صحية وقانونية، فالمنازل الخاصة غير مهيأة لتكون بيئة تعليمية مناسبة، كما أن المشرفات عليها في الغالب غير متخصصات ولا يتمتعن بمهارات وإمكانات تؤهلهن للإشراف على عدد كبير من الأطفال. مالذي يجري هنا؟ الذي يجري باختصار أننا نغامر بأطفالنا ونضعهم في أماكن غير مناسبة، ونهمل _ بسبب عدم الوعي_ أهم مكتسباتنا وثرواتنا؛ أطفالنا الذين هم بوضوح خارج الحسبة.
ما هو متداول ولكن لا أعلم مدى دقته، هو أن وزارة التعليم العالي قد رفعت طلبا لوزارة المالية لتحمل الدولة لمصاريف تعليم الأطفال أسوة بالمبتعثين ولكن الأمر توقف عند هذا الحد. المطلوب اليوم من أعلى الجهات التشريعية في البلد حل هذه الأزمة وعدم ترك مستقبل أطفالنا خاضعا لقرار بيروقراطي. نحن نتحدث عن أمر في غاية الأهمية والضرورة ويتعلق بمطلب أساسي لفئة تعتبر هي أهم فئة في المجتمع وتحتاج أن تكون في سلم الأولية والاهتمام والرعاية، لا أن تكون خارج الحسبة كما هو الوضع القائم. أطفال المبتعثين أهم من المبتعثين أنفسهم، ولا بد من تعديل هذا الميزان المقلوب وأن نوقف هذا الخطأ قبل فوات الأوان.