كل المجتمعات -تقريبا- لا تخلو من المتطرفين، ومع أن نسبهم تختلف من مجتمع إلى آخر، إلا أنه مهما علت هذه النسب فلا يجوز لنا أن نَصِمَ مجتمعا ما بـ"التطرف"، ما لم تكن لدينا معايير واضحة يمكننا الاحتكام إليها في إصدار هذا الحكم.
كما أن التطرف عملية نسبية تختلف من شخص إلى آخر، ومن مجتمع إلى آخر، ومن حضارة إلى أخرى، وهو ليس سلبيا على الإطلاق، فعندما يأتي في صورة التعصب للرأي، ولم يصل إلى مرحلة يكون الإنسان عندها مخيرا بين الخضوع أو القمع، فهو ثراء يمكن إدخاله في دائرة التنوع والتعدد والاختلاف الطبيعي الموجود بين بني البشر، خاصة أن هنالك حقيقة علمية تقول: إذا كان لديك 300 ألف بليون أخ وأخت، فإنهم سيكونون مختلفين عنك، ولأن من الصعب إيجاد معايير واضحة في الحكم، فسأطرح هذا السؤال بشكل آخر، وأقول: ما صفات المجتمع المعتدل، وكيف يمكن للحكومات أن توجد هذا النوع من المجتمعات؟!
حين تسأل إنسانا عن رأيه في التطرف، فلا ريب أنه سيلعنه وسيستعيذ بالله منه، بل سيصف أصحابه بأشنع الألفاظ، وأشدها إغراقا في البذاءة، وأدلها على أبشع المعاني وأقبح الصور، وسيحمد الله على أنه معتدل مذ نعومة أظفاره، كما أنه سيأتيك بالأدلة على فضل الوسطية والاعتدال، وذم التطرف والمتطرفين، وهو لن يفطن إلى حاله، حتى لو كان هو نفسه غارقا في التشدد، بل سيهزأ بك على أنك لا تعرف الفرق بين الإفراط والتفريط، وقد يعتبر حديثك عن الوسطية تمييعا للدين ودعوة إلى الإفساد والانحلال، كما يظن أن نقدك ممارسات بعض المتدينين سخرية من الدين وحربٌ على أولياء الله الصالحين!
ربما يصل به الحال إلى محاكمتك والمطالبة بإقامة حد الردة عليك، حتى لو كان في تلك الممارسات تشويها للدين وإلصاقا لما هو ليس منه فيه، وهو لا يدري أنه بهذا الفهم للوسطية لا يختلف كثيرا عن "داعش" وجبهة النصرة وغيرهما من الجماعات المتطرفة، حتى إن هذه الجماعات تنفذ الإعدامات بحق من يخالفها على اعتبار أنهم متشددون خوارج عليهم لعنة الله!
حين يوصف شعب ما بصفة معينة، فلا يعني ذلك أن هذا الشعب له جينات مختلفة عن باقي الشعوب، بقدر ما يعني أن له ظروفا مختلفة، ولو تغيرت هذه الظروف لتغيرت حياته معها، فالبيئة -كما هي معروفة- لها دور كبير في تنشئة الفرد، وتشكيل ثقافته، وهو يسعى دوما إلى التوافق معها، فحين يغلب عليها التنوع والتعايش والتسامح، فستجد أفرادا وسطيين ينكرون على المتطرفين تشددهم، أما حين يُرَاد صبغ المجتمع بلون واحد فإنه يكتسب مناعة ضد الألوان الأخرى، ويتعامل معها كما يتعامل جهاز المناعة في جسم الإنسان مع الأجسام الغريبة، إذ يبدأ بمقاومتها وطردها بمجرد التعرف عليها، واكتشاف أن بصمتها الجينية تختلف عن تلك الموجودة في خلايا الجسم، ولذلك فالأفراد تتم برمجتهم أيضا، ويتصرفون بناء على هذه البرمجة، وبدلا من مطالبة الناس بتغيير سلوكهم يتوجب على الحكومات أن تغير هذه البرمجة، ليتصرف الأفراد بناء على التحديث الجديد.
سأعود إلى السؤال الذي بدأت به هذا المقال، وأقول: إن المتطرف لم يأتِ من السماء، ليكفر كل من في الأرض، قبل أن يأخذهم معه في رحلة العودة إلى السماء عبر عملية انتحارية، بل هو نتاج بيئة معينة، ويمكن للحكومات أن توجد مجتمعات معتدلة، كما يمكنها فعل العكس، وذلك بحسب نوع البرمجة التي تدخلها في عقول الناس، لتأتي المخرجات متوافقة معها، وكي يكون المجتمع معتدلا يفترض أن تبادر الحكومات إلى استصلاح التعليم والخطاب الديني، وأن تعيد النظر في أنظمتها وقوانينها.
ففي التعليم، يجب أن يراعى عند صياغة المناهج التعليمية أنها تستهدف مجتمعا ذا أطياف متنوعة، وأن يُعزَزَ في أذهان الطلبة أن التنوع ثراء وحكمة ربانية، لا مصيبة وبلاء "ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم"، مع الحفاظ طبعا على الهوية الإسلامية دون تفريعات أو تفاصيل، كما يجب التركيز على المشتركات وتعزيزها، أما الخلافات العقدية بين المذاهب الإسلامية فلا ينبغي الزج بها في التعليم، كما يفترض أن تعزز القيم الكبرى التي أتى بها الإسلام كالعدل والمساواة والرحمة وحسن الخلق وأدب التعامل، وأن يقرر من الأقوال الفقهية أيسرها على الناس. أما الخطاب الديني فمن الواجب ضبطه، وأن يُنأى به عن التحريض وتكريس الكراهية والعداء مع العالم، بتصوير أنه لا عمل للعالم إلا محاولة إفساد المسلمين والتآمر عليهم، كما أن أكبر ما يضبط حياة الناس ويبني الدول هو الأنظمة والقوانين، فلا بد من إعادة صياغتها بطريقة واضحة، تتيح للناس تمييز الخطوط الفاصلة بين الممنوع والمسموح، بما يعزز من الحرية الفردية المنضبطة بأعلى درجاتها، خصوصا فيما يتعلق بعلاقة الإنسان مع ربه، فإني لا أثق بإيمان مزور يأتي مع الخوف من البشر، فإن زال هذا الخوف زال الإيمان معه، فالإيمان الحقيقي هو ما كان حبا في الله، قائما على أساس الرجاء والخوف منه وحده!