في الوقت الذي تتوجه فيه الأنظار إلى مؤتمر جنيف يأتي القرار الروسي بسحب الجزء الأكبر من قواته من سورية ليلقي بظلاله على مجمل الأوضاع في سورية والمنطقة بشكل عام، وقد ذهب أغلب المحللين للقول بأن هذا القرار يعتبر اعتراضا روسيا على الشروط المسبقة التي طرحها النظام السوري على المجتمعين في جنيف بخصوص بقاء بشار الأسد في السلطة، مما أظهر مدى التباين بين موقفيهما بهذا الصدد، ليس هذا فحسب بل يظهر أنه تباين في المواقف مع إيران أيضا التي أكد مرشد الثورة فيها (علي خامنئي) قبل أيام أن بشار الأسد هو خط أحمر.

يمثل مؤتمر جنيف الحالي بالنسبة للأطراف الدولية (أميركا وروسيا والغرب) فرصة لا يمكن التفريط فيها للتوصل إلى حالة استقرار معينة في الملف السوري، وقد حاولت أميركا والدول الغربية إظهار موقف استباقي قبل انعقاده، بإبداء نوع من الضغط السياسي من خلال تصريح ديمستورا حينما صرح بأن فشل اجتماع جنيف الحالي سيؤدي إلى تحويل الملف السوري بمجمله إلى مجلس الأمن، ويبدو أن روسيا قد تلقفت الرسالة وفهمتها بشكلها الصحيح، حيث إن ذلك سيغير من مجمل الوضع الميداني والسياسي الذي نجحت روسيا في تثبيته في سورية وحسب مصالحها طوال الفترة الماضية، وتضعها أمام باب مفتوح على احتمالات كثيرة قد تفقدها كل تلك المكاسب.

كما قلنا سابقا فإن الهدف الرئيس من دخول روسيا القوي في الأزمة السورية كان للحفاظ على مناطق نفوذ لها في تلك الدولة، خاصة في مناطقها المطلة على البحر، ويبدو أنها قد حصلت على تطمينات أميركية وغربية بهذا الشأن، ليس على مجمل الأراضي السورية كما كان سابقا قبل الثورة السورية، وإنما في المناطق التي يراد لنظام سورية الحالي البقاء فيها مستقبلا، أعني بها المناطق التي تسيطر عليها قوات النظام في الوقت الراهن سواء بقي بشار الأسد أو جيء بآخر من نفس المدرسة الموالية لروسيا.

إن هذا الانسحاب الروسي سيفتح آفاقا عديدة للحل في الأزمة السورية، بشكل يرضي جميع أطرافها المتصارعة، وهذا يعني استقرار الوضع الميداني الحالي وترسيخه، فالانسحاب الروسي هذا بوجود عملية سياسية بين فرقاء غير متجانسين سيرسخ الخريطة الموجودة الآن بشكل أكثر، ويفتح الباب بشكل أوسع على الحل الفدرالي في البلاد، بحيث يسيطر النظام على المناطق التي تسيطر عليها قواته الآن، ويبسط الجيش الحر وفصائل المعارضة الأخرى (المتحالفة مع الغرب وأميركا) سيطرتها على المناطق التي تسيطر عليها، إضافة للمناطق التي يسيطر عليها داعش وجبهة النصرة بعد طردهما منها، وتحافظ الفصائل الكردية على المناطق الكردية التي تسيطر عليها في الوقت الراهن.

هناك عامل وإن بدا للبعض بأنه غير مؤثر، إلا أنه قد تحرك بالتنسيق مع التوجهات الأميركية في المنطقة، وهو العامل الإقليمي المتمثل بالدور التركي والسعودي، والتهديدات المستمرة التي كانتا تطلقانها في إمكانية تدخلهما البري في سورية، هذه التهديدات كان لها تأثير قوي على التوجهات الروسية، فأية مغامرة بهذا الشكل من هذه الدول كانت ستعني تغيرا في مجمل الموازين الإقليمية، توضع فيها روسيا أمام تحديات عسكرية وسياسية واقتصادية قد لا تتحملها.

يبدو أن روسيا قد تخلت بهذا الانسحاب عن كل الشعارات التي كانت تطلقها بخصوص محاربتها للإرهاب في المنطقة، وسلمت هذه المهمة بالكامل إلى الطرف الأميركي والغربي، سواء في سورية أو العراق وحتى ليبيا.